كاتب فاشل يتقمص دور دون كيشوت ويحارب مدينة السعادة أعلن مؤخرا عن القوائم القصيرة لجوائز الإبداع التي يمنحها معرض الكتاب التونسي، وفي فرع الرواية ترشحت كل من رواية “أنا والشيطان والوطن” لطارق الشيباني، و”شارع مرسيليا” لمحمد الباردي، و”مكينة السعادة” لكمال الزغباني، ولو أن الكثيرين يرجحون فوز رواية الزغباني بالجائزة التي سيتم الإعلان عن نتائجها على إثر افتتاح المعرض اليوم الجمعة.العرب أشرف القرقني [نُشر في 2017/03/24، العدد: 10581، ص(14)]دون كيشوت تونسي جديد "مكينة السّعادة" لكمال الزغباني رواية وإن امتدّت على 347 صفحة فهي تظلّ في بنيتها أقرب إلى “الرّواية النّهر” التي ظهرت في نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن العشرين، تأثّرا بالمدّ العظيم للحكايات التي يتوالد بعضها من بعض، مثل “ألف ليلة وليلة”. عنقود الحكايات تجمع الرواية بين الطّرافة والسّخرية اللاذعة والتّحليل العميق لواقع تونسيّ مخصوص مفتوح على التّقاطع مع مجتمعات عربيّة أخرى في بعض مستوياته، تقدّم الحكاية الإطاريّة كاتبا فاشلا يراسل شيخا ‘فضائيّا’ هو يونس القرداوي من أجل طلب إباحة دم كاتب زنديق تُسبّب روايته إفساد أخلاق ابنته. باعث الرّسالة شخصيّة مختلقة، وصاحب الكتاب هو الكاتب الفاشل نفسه يحبك هذه الحيلة حتّى تشتهر روايته وتقبل عليه المعجبات والصحافيّون. لكنّه إذ كتب تلك الرّسالة يجد نفسه متورّطا في علاقة قائمة مع شخصيّتين ابتدعهما في خضمّ تأليفها، وهما المرسل الوهميّ/ الأب، وابنته التي استلهم خلقها من مشهد مومس شابّة في المقهى… بنية الرّواية متشعّبة جدّا على نحو نحدس أنّه يشعر حتّى مؤلّفها بالخدر. ومع ذلك فإنّ هذا الرّهان ينجح في الاندفاع سلسا ومترابطا. تنقاد مع هوس السّارد بالحكي: قصّة الكاتب الفاشل وزوجته وقصّة صديقه “التاكسيست-الفيلسوف” محمّد الغربي الذي “شرع (الكاتب) منذ أشهر في التخطيط لرواية جديدة مستلهمة” من حياته. قصّة رجب لسود مناضل اليسار الذي غادر البلاد هربا من مطاردة البوليس ويأسا من بلوغ حبيبته شهيرة وصولا إلى كندا، حيث تابع دراسته الجامعيّة متخصّصا في علم الأنثروبولوجيا. ثمّ يعود إلى تونس ويشرع في تدريس مسألة “مطلب السّعادة في الأديان بين الجسمانيّ والرّوحانيّ من خلال مثالي البوذيّة والإسلام”. تنضاف إلى هذه القصص حكايات أخرى عديدة ذات طبقات مختلفة؛ فالسّارد لا يفلت حتّى فرصة أن يحدّثنا عن حبكة المسلسل المكسيكيّ الذي تشاهده بنت البغيّ التي تعيش مع شعيّب الفطناسيّ. وشعيّب الفطناسيّ هذا هو فيما نقدّر الفتى المدلّل لدى المؤلّف من بين جميع الشّخصيّات الأخرى. وقد انتخب مقطعا جوهريّا يعرّفنا إليه وسط الرّواية، ليجعله على غلافها الخارجيّ. كما أفرد له تعاطفا خاصّا في صوت السّارد وإيقاعه من بين مئات الشّخصيّات التي تلهث في “مكينة السّعادة”. إنّه شخصيّة نيتشويّة تقيم خارج الثّنائيّات كلّها وعلى رأسها ثنائيّة الخير/ الشّرّ. وتتمثّل سعادته بخلاف الشخصيّات الأخرى في “اللّعب بما هو واقعة أنطولوجيّة أصليّة وأصيلة”؛ ذلك أنّه أعرج ممّا يعني أنّ إيقاع حضوره في العالم يكسر ثنائيّة التّناظر والتّوازي في مستوى مشيته وإقامته الوجوديّة. شعيّب الفطناسيّ مميّز لدى مؤلّف “المكينة”/السّيستام (النّظام) ومحاربِها الدّونكيشوتيّ لأنّ به خللا يجعله خارج المعايير التي تستند إليها آلة “السّعادة الفتّاكة” وتخوّل له القبول ضمنها أي أن يكون عاديّا.الرواية تجمع بين الطرافة والسخرية اللاذعة والتحليل العميق لواقع تونسي يتقاطع مع مجتمعات عربية أخرى المؤلف والسارد يذكر في الرّواية أنّ الكاتب الفاشل يشرع في كتابة رواية مستلهمة من حياة محمّد الغربي. وفي الصّفحة 278 يرد ما يلي “كان متّجها (محمّد الغربي) إلى مطعم ‘المالوف’ لاحتساء بعض قوارير رفقة الكاتب كمال الزّغباني الذي فاجأه منذ شهر بقوله إنّه يكتب رواية مستلهمة في جزء منها من حياته هو”. الإشارة إلى اسم المؤلّف جاءت خارج عمدة الجملة. هل هذه إشارة إلى عرضيّة هذا المعطى فيها وبالتّالي في النصّ الذي يتضمّنها؟ أم تلك مراوغة تدلّ على خلاف ذلك تحديدا؟ هل الكاتب الفاشل المتحدّث عنه في الحكاية الإطاريّة هو كمال الزّغباني مؤلّفها ومؤلّف الرواية كلّها؟ ولكن هناك سارد من خلف الكاتب الفاشل أو من فوقه، وهو الذي يكتب سيناريو وليس رواية رغبة في الشهرة والنجاح بعنوان “مدينة السّعادة”. يحدّثنا هذا السّارد عمّا يسرده الكاتب الفاشل في عمل روائيّ. يخالفه أحيانا، ويكشف عن عجزه عن تسمية عجيزة نورندة مثلا. ويعرض لنا مواقيت دخول الشّخصيّات إلى “هذه الرّواية” وكيفيّة إقامتها فيها. “لكنّ الرّوائيّ فيه كان كثيرا ما يتدخّل ليطنب في تحليلات لدواخل الشّخوص وحالاتهم النّفسيّة أو تأمّلاتهم الوجوديّة بحيث تكفّ الكتابة عن أن تكون مشهديّة فتبتعد عن السّيناريو لصالح الرّواية”. هل يسطو كمال الزّغباني على سيناريو الكاتب الفاشل بأحقّيةٍ -باعتباره مخلوقه- فيحوّله إلى رواية؟ أم أنّ الكاتب الفاشل هو إمكانُ تحقّقٍ لصيرورة الزغباني وهو يحاول تفاديه في هذه الرّواية تحديدا عبر لفظه في أثر فنّي والانتصار عليه؟ هل هو أناه الأخرى؟حكايات داخل حكايات أليس خطاب السّارد المعرفيّ والفلسفيّ نابعا من كمال الباحث في الفلسفة وهو نفسه خطاب ساخر ولاذع مثل سارده؟ ولكن شعيّب أيضا له مثل السّارد والمؤلّف ملاحظات واستقراءات طريفة لظواهر اجتماعيّة ترى نورندة أنّ علماء الاجتماع عاجزون عن الإتيان بمثلها رغم انقطاع شعيّب المبكّر عن الدّراسة، أو لنقل ربّما بفضل انقطاعه ذاك (أليست مؤسّسات التعليم جزءا من المكينة؟) وحضوره الأعرج في العالم نجا من “مكينة السّعادة” إلى حدّ مّا. النّوري في سيناريو “مكينة السّعادة” يحارب الآلة الاجتماعيّة السّياسيّة ورمزها المدينة، كما لو أنّه دونكيشوت يظلّ يحارب “طواحين الهواء” حتّى النّهاية. “يدرك بصعوبة حافّة اليافطة. ويثبّت قطعة الورق اللاّصق على حرف ‘الدّال’ من كلمة ‘مدينة’ بحيث تتحوّل إلى ‘مكينة’. في تلك اللّحظة تسقط نظّاراته. فيضطرب ويشعر ببداية تكسّر الغصن الذي يتثبّت به”. هناك مئات الحكايات في هذه الرّواية المذهلة تنطلق في سلسلة “لقاءات” تليها “تقاطعات” متشابكة ومحكمة ومن ثمّ “صيرورات” و”مصائر”؛ (أقسام الرّواية الأربعة). ورغم كلّ موارباتها الماكرة تظلّ متّسمة بجانب كبير من التّرجمة الذّاتيّة في محاولة لخدش/لعن/عضّ “المدينة-المكينة” الاجتماعيّة الكبرى، تلك التي تريد أن تكون إلهًا مطلقا وواحدا رافضا لكلّ نظام مبتدع ومواز ولأيّ سمات تخرج عن معاييرها؛ إذ استنادا إلى تلك المعايير تحاكم الذّوات المبدعة المختلفة، “مشاريع الكيانات المستقلّة (التي) تبدع شكل وجودها” وتسعى إلى تقويمها إن أمكن أو إتلافها باتّجاه العدم.
مشاركة :