الموصل (العراق) - لم تضع الحرب الضروس التي دارت في مدينة الموصل مركز محافظة نينوى بشمال العراق، وانتهت قبل أكثر من سنة باستعادة المدينة من تنظيم داعش، حدّا لمعاناة من بقي حيا من سكان المدينة، بل جدّدتها بطرق مختلفة هي امتداد للعيوب الكبيرة التي شابت تلك الحرب، وعلى رأسها القوّة المفرطة والكثافة النارية العالية التي استُخدمت بشكل لا يتناسب مع حروب المدن وهو ما خلّف دمارا هائلا بالبنى والمرافق العامّة، إضافة إلى مشاركة ميليشيات طائفية وعرقية غير نظامية في الحرب، وفي مسك المدينة بعد استعادتها، حيث ما تزال تمارس الانتقام والسرقة والابتزاز بحق الأهالي. وأصبح المثل القائل “كالمستجير من الرمضاء بالنار” منطبقا على الموصليين الذين بدا وكأنّهم بصدد دفع ثمن مشاركة الحشود الشيعية والسنية والمسيحية والشبكية والإيزيدية في استعادة مدينتهم من تنظيم داعش. وكشفت شهادات سكّان محليين أن قادة الميليشيات على اختلاف درجاتهم ورتبهم يتقاضون من كثير من تجار الموصل الذين تمكّنوا من استئناف أنشطتهم، وكذلك من العائلات الميسورة مبالغ مالية بشكل منتظم تارة بذريعة توفير الأمن لهم ومنع تعرّض ممتلكاتهم وأرواحهم للخطر في ظل الوضع الأمني الهش واستشراء عمليات السرقة والنهب، وطورا آخر تحت طائلة التهديد بالاتهام بتعاون مزعوم مع تنظيم داعش خلال احتلاله المدينة. وكوجه آخر لعمليات النهب، تقول مصادر من داخل أحياء الموصل التي تكابد للتعافي من آثار الحرب وتبعاتها، إنّ تلك الحشود التي احتفظت بوجود عسكري لها بالمدينة، انخرطت في عمليات سلب واستيلاء على الممتلكات، سواء التي غادر أصحابها على عجل فرارا من الحرب، أو الذين قضوا بفعل المعارك والقصف العشوائي ودفنوا تحت ركام منازلهم. وكثيرا ما يمنع عناصر الميليشيات السكان العائدين من الوصول إلى منازلهم بحجة وجود ألغام، فيما تواصل شاحنات كبيرة نقل حديد الأبواب والأسيجة والنوافذ والسقوف والسيارات المدمّرة وسائر الأثاث المصنوع من المعادن، لبيعه كخردة لمعامل إعادة تدوير المعادن في إقليم كردستان. وطلب جميع الذين تحدثوا لـ”العرب” من أبناء الموصل عدم الكشف عن أسمائهم خوفا من ردّة فعل الميليشيات ضدّهم، وكذلك فعلوا أثناء الإدلاء بإفاداتهم للمنظمات الدولية التي زارتهم للوقوف على الأوضاع الإنسانية في المدينة بعد استعادتها من داعش. ميليشيات تفرض إتاوات على التجار والعائلات الميسورة بذريعة حمايتهم، أو تحت طائلة التهديد بالاتهام بالتعاون مع داعش وقال أستاذ جامعي من سكّان الموصل “لقد جادلتهم وقلت لهم لا بدّ أن أصل إلى منزلي وسأتحّمل المسؤولية في حال انفجر علي لغم، لكنهم أصروا على الرفض”. ويؤكّد الأستاذ نفسه أنّ عمليات نهب الممتلكات الخاصة والعامة طالت كلّ شيء، بما في ذلك الكتب والمخطوطات التي سرعان ما ظهرت معروضة للبيع على أرصفة مدن أخرى مثل بغداد وأربيل وغيرهما. وقال مدير مدرسة ثانوية بأسى “لم يبق في المدينة القديمة شيء يسرق بعد مرور مدّة أكثر من عام على استعادتها من داعش كانت كافية لتمشيط عناصر الميليشيات لأكثر من مرّة المباني سواء منها ما ظلّ قائما أو تضرّر جزئيا أو ما تحوّل منها إلى ركام، ما يفسّر الانتقال أخيرا إلى سرقة حديد المباني لبيعه كخردة”. ويرفض موظف بالبلدية أن يطلق على مرتكبي عمليات النهب صفة عصابات مسلحة، قائلا “إذا قلنا إنهم عصابات تسرق فهذا معناه أن جريمتهم اعتيادية، والحال أنّ الكثير من قادة الميليشيات وعناصرها يعتبرون أن ما ينهبونه غنائم حرب أو ثمنا لما يسمونه تحرير المدينة من داعش”. ويتخوف الناس من رفع أصواتهم بالشكوى تحت طائلة التهديد باتهامهم بالانتماء لتنظيم داعش والتعاون معه، وهي تهمة لكل من يبدي اعتراضا على سلوك الميليشيات. ويدين صاحب متجر كبير صمت الحكومة المحلية في الموصل التي يتهمها بالفساد والتواطؤ مع ميليشيات الحشد الشعبي التي يقول إنّها ما تزال موجودة بقوّة داخل المدينة رغم إعلانها شكليا عن الخروج إلى ضواحيها. ويصف المهندس سحبان فيصل محجوب حال أبناء مدينته الموصل بأنهم “يعيشون حالة ضياع ورعب ويحتاجون إلى إعادة تأهيل نفسي ومادي ومعنوي ليستعيدوا القدرة على مواجهة ما يحدث لهم على أيدي الميليشيات”. وقال في حديث لـ”العرب” إن ما يجري في الموصل “مرتبط بأجندات إقليمية أفرزت مصالح ومنافع غير مشروعة لأدوات محلّية”.
مشاركة :