ربما لا يوجد في علم الاقتصاد ومجالات الاستثمارات مسمى يحمل من التناقض بينه وبين حقيقته الراهنة أكثر مما بات يعرف بـ "صناديق التحوط". فالتحوط في اللغة يعني الحرص وعدم المجازفة، بينما جوهر فكرة صناديق التحوط هو المجازفة الاستثمارية والمخاطرة وإن كانت محسوبة. وإذا كان تاريخ تلك الصناديق يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، فإن مياها كثيرة جرت في النهر منذ ذلك الحين، بحيث باتت صناديق التحوط أحد الأركان الرئيسة للاستثمار، خاصة لكبار المستثمرين. وربما أبرز ما يميز صناديق التحوط أنها أوعية استثمارية بمعدلات ربحية مرتفعة للغاية، ولكن بمعدلات خسارة مرتفعة للغاية أيضا، كما أن المصاريف الإدارية التي تجنيها تلك الصناديق تعد الأعلى في الأسواق، وبالطبع فإنها متاحة فقط لما يمكن وصفهم بصفوة أو نخبة المستثمرين وليست للعامة. وبصفة عامة، فإن صناديق التحوط وعاء استثماري يضم عددا محددا من المستثمرين، وتقوم فلسفته على تحقيق ربح للمستثمر فيه بغض النظر عن تقلبات الأسواق. ومن ثم فإن المسؤولين عن صناديق التحوط لا يوجد لديهم ولاء فيما يتعلق بالأصول الاستثمارية، وإنما اهتمامهم الوحيد ينصب على تتبع اتجاه الأرباح، ولهذا، فإن الخطط الاستثمارية في تلك الأوعية لا يتم تنظيمها مثل خطط الاستثمار الأخرى. ومنذ ظهور صناديق التحوط، وحتى العقد الأخير كان جل استثماراتها منصبا على الأسهم والسندات والمعادن والعقارات أو غيرها من الأصول التقليدية المعتادة. إلا أن الآونة الأخيرة شهدت تغيرا بارزا في طبيعة الأصول الاستثمارية لصناديق التحوط، إذ برزت صناديق تحوط تنصب استثماراتها على ما يعرف بالعملات الافتراضية، سواء كانت تلك العملات تمثل جزءا من المحفظة الاستثمارية لها، أو أن الصندوق لا يستثمر إلا في العملات الافتراضية. هاري دينيس الخبير الاستثماري، يعتقد أن العملات الافتراضية فرضت نفسها كأصل استثماري، ما دفع بالقائمين على صناديق التحوط للاستثمار والمضاربة فيها. ويفسر ذلك لـ "الاقتصادية"، قائلا إن "الارتفاع الذي شهدته أسعار العملات الافتراضية في بعض الفترات، مثل عنصر إغراء وجذب لمديري صناديق التحوط، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن الهدف الأساسي لهؤلاء المديرين هو تحقيق أعلى معدل ربحية ممكن خلال فترة زمنية قصيرة، ومن ثم فإن من المنطقي للغاية أن تتضمن المحفظة الاستثمارية لصناديق التحوط الاستثمار في العملات الافتراضية". ويضيف دينيس، أن "هناك تطورا بارزا تمثل في ظهور صناديق تحوط للعملات الافتراضية، التي ينحصر استثمارها أو مضاربتها على العملات الافتراضية، وفي مقدمتها البيتكوين، ورغم أن جوهر الفكرة بينها وبين صناديق التحوط التقليدية واحد، إلا أن هناك اختلافا في التفاصيل، فمثلا صناديق تحوط العملات الافتراضية لا تدفع للمساهمين غالبا إلا عبر تلك العملات، كما أن نمط الإدارة أيضا يختلف إذ تتم إدارة الصندوق من خلال تصويت المساهمين بنسب محددة". لكن أحد جذور الاختلاف بين صناديق التحوط التقليدية ونظيرتها في العملات الافتراضية يعود إلى التنظيم الحكومي، أو موقف الدول المختلفة من العملات الافتراضية، التي لم يتم الاعتراف بمشروعيتها بعد بشكل تام في أسواق المال والأعمال، حيث لا يزال الجدل قائما بشأنها. وتنسجم الأنشطة الاستثمارية لصناديق التحوط التقليدية تماما مع الإجراءات الحكومية الخاصة بالاستثمار، ويمكن القول إن الساحة الدولية مجال عام لأنشطتها سواء في الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور أو الاقتصاديات الناشئة أو البلدان النامية. والأمر يختلف بالنسبة لصناديق تحوط العملات الافتراضية، لأن الهامش الاستثماري بالنسبة لها أضيق سواء في شقه الاستثماري لانصباب نشاطها على جانب واحد من جوانب الاستثمار، أو بسبب محدودية رقعة النشاط نتيجة عدم الاعتراف الدولي العام بالعملات الافتراضية وعدم قانونيتها في عديد من البلدان. ومع هذا، فإنه مما لا شك فيه أن صناديق تحوط العملات الافتراضية تعد قادما جديدا في سوق تعد بطبعها جديدة أيضا في المجال الاستثماري. وفي هذا السياق، يقول لـ "الاقتصادية"، أوليفر دين المحلل المالي في بورصة لندن إن "التقلبات في قيمة العملات الافتراضية تجعل من الصعب في المرحلة الراهنة حسم الأمر بشأن تلك الصناديق، فالاختلافات بين العامين الماضي والجاري كبيرة، ففي 2017 حققت تلك العملات الافتراضية قفزات هائلة خاصة مع قرب نهاية العام عندما بلغت قيمة البيتكوين قرابة 20 ألف دولار، وتجاوزت عائدات بعض صناديق التحوط المتخصصة في العملات الافتراضية أرقاما فلكية بلغت 2700 في المائة، وأداؤها العام كان أفضل بما لا يقارن بصناديق التحوط التقليدية". ويضيف أوليفر دين، أن العام الراهن وعلى الرغم من أنه لم ينته بعد، إلا أن المؤشرات لا تصب في مصلحة العملات الافتراضية مقارنة بالعام الماضي، فسعر بيتكوين حاليا يبلغ 6400 دولار تقريبا، وفي حزيران (يونيو) الماضي كانت التقديرات تشير إلى أن تراجع أداء صناديق التحوط في العملات الافتراضية بنسبة 35 في المائة، وأن أربعة من بين كل خمسة كان أداؤها سلبيا خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام". ويبدو التقلب واضحا من شهر إلى آخر، ففي نيسان (أبريل) ونتيجة ارتفاع أسعار العملات الافتراضية زادت عوائد صناديق تحوط العملات الافتراضية 45 في المائة، إلا أنها تراجعت 17 في المائة في الشهر التالي. لكن هذا الأمر يبدو منطقيا نظرا لخسائر بيتكوين التي قدرت بأكثر من نصف قيمتها هذا العام، إذ تراجع من 17500 دولار في بداية كانون الثاني (يناير) إلى 6400 دولار الآن. وأدى هذا التراجع إلى انخفاض القيمة السوقية للبيتكوين من 300 مليار دولار إلى أكثر قليلا من 100 مليار دولار. وتقول لـ "الاقتصادية"، إيما كريس الاستشارية في مجموعة "لويدز" المصرفية، إن "القلق بشأن تعرض العملات الافتراضية لحملة تنظيمية غذي شعور سلبي لدى المستثمرين وساهم في انخفاض الأسعار، وفي الأغلب سيظل سوق التشفير غير مستقر في الأجل المنظور". إلا أنها تعتبر أنه في الوقت الذي يرى فيه مستثمرو التجزئة أو صغار المستثمرين تقلبات أسواق العملات الافتراضية ظاهرة سلبية، فإن عديدا من أسواق التشفير تراها فرصة، فالأثر الإيجابي طويل الأجل بالنسبة لصناديق التحوط أهم من تقلبات الأسعار في الأجل القصير. وتشير كريس إلى أن الانتظار لتحسن الوضع في الأجل الطويل رفاهية لا تتحملها جميع صناديق التحوط في العملات الافتراضية، فخلال الأشهر الثلاثة من هذا العام، وعندما بلغت التقلبات السعرية حدها الأقصى اضطرت تسعة صناديق تحوط تركز على الاستثمار في العملات الافتراضية للخروج من السوق، حتى صناديق التحوط الأكثر رسوخا في هذا المجال الاستثماري شهدت إعادة نظر في سلوكها الاستثماري لهيكلة محفظتها الاستثمارية. وحول مستقبل هذا النوع من صناديق التحوط، يوضح لـ "الاقتصادية"، آندي لين كبير المحللين الماليين في بورصة لندن، أن "العالم يموج الآن بأكثر من 200 صندوق تحوط تتعلق أنشطتها بتبادل العملات المشفرة، إلا أنه المتوقع أن تتعرض نسبة ملحوظة منها إلى خسائر أو انخفاض حاد في العائد هذا العام، والتوقعات الراهنة تشير إلى أن 10 في المائة منها ستغلق بحلول كانون الثاني (يناير) من العام المقبل".
مشاركة :