حسان الحديثي ما زلت مومناً ان المدن كالنساء باختلاف السكنى والاطمئنان هذه تسكنك وتطمئن اليك ، وانت تسكن وتطمئن لتلك. لله در النابغة حين قال:فاستعجمتْ دارُ نُعْمٍ ما تكلمُنا ... و الدارُ لو كلمتنا ذاتُ أخبارِ لو كان للمدن وجوهاً لأشرق وجه هذه المدينة لطفا وجمالاً، ولو خلق الله للمدائن شفاهاً وألسنةً لتبسمت "اليكانتي" بوجوه الناس بل ولقالت شعراً عذبا يناسب روعتها وجمالها ويليق بحسنها ودلالها. لكنها خالفت النابغة في قوله فحين أصابتها عجمة الكلام وتعذر عليها الابتسام استعارت ألسنة اهلها وناسها وأرسلت عبارتها على وجوههم حتى قرأه كل زائر لها. هل رايتم مدينة تبتسم بوجه زوارها؟ هل احسستم بمدينة تفتح ذراعيها للقادمين اليها؟ هل صادفتم مدينة تتكلم؟ أنا رايت وأحسست وقرأت ذلك كله في "اليكانتي" ولكن بوجه صاحبي. لم أر وجهاً دائمَ الابتسام كوجهه ، كلما نظرت اليه وجدته يضحك ، فاجأني بل ادهشني حين وجدته ينتظرني في مطار مدريد وحين عاتبته على ذلك ضحك فقضيت ساعة اللقاء انا اعاتبه وهو يضحك. لقد قاد سيارته من أقصى الجنوب لينتظرني في مطار العاصمة ثم ليأخذني ويقود سيارته قافلاً لأربع ساعات اخرى الى مدينته الجميلة. وصفته مرة فقلت له: هل تعلم ما يميزك عن الاخرين؟ انت تغصب نفسك على الإبتسام والضحك حتى طُبعتُ سمةُ السماحة والانشراح على وجهك، فضحك. كان يتوقف كثيراً ليلتقط لي صوراً على جانبي الطريق مرة في قرية على اليمين وتارة في واحة على اليسار، التقط لي صورة على ربوة قرب قصر من قصور أمراء العرب وانا أشير الى القصر واقول له هنا كان اجدادي وهو يضحك. في اليوم التالي دعاني الى مطعم صديقه المحترف بعمل اكلة Paella "بايايه" او "البقايا" كنت قد قرأت ان عرب الاندلس كانوا يجمعون ما تبقى لديهم من حبوب وخضار ليطبخوها مع بعضها في انية مسطحة فبقيت الأكلة وبقي اسمها خَجِلا من حرف القاف حين تعذر عليهم نطقه. فاصبحت البقايا باياية، شرحت له ان هذه الأكلة عربية لا تزال موجودة في بعض بلداننا .... وهو يضحك. بضعة ايام قضيتها في إحدى أجمل مدن العالم ، أتلمس عتبات دورها المتراصفة فأتبين لغتها وان كانت منحوتة من صم الصفا ، افهمها وهي تخبرني انها رفعت أناسا وحطت آخرين. أتحسس خشب ابوابها القديمة بيدي فترجع لي صدى طرّاقها الغابرين، انصت الى دروبها الضيقة وازقتها المرصوفة بالحجارة وهي تعيد لي صدى مشاتها، وحين اقف مساءً امام البحر واصيح: يا ابن زيااااااااد.... يضيع الصوت في الافق فأعيد الكرة واصرخ: يا صقر قريييييييش .....فيذوب الصوت مع ملح البحر احاول ان استنطق الارواح المسكونة في الحجارة والخشب والماء حتى انسى نفسي ثم التفت لاجد صاحبي ينظر الي ويضحك. كنت اقول له ان هذا الكرم المجنون ليس من طبائعكم، فانتم ايها الاوربيون لو استطعتم ان تحصوا علينا الأنفاس لفعلتم أما أنت فامرك عجيب إني أجزم أنك عربي فلا يمكن ان يكون هذا الطبع المجنون إلا عربيا .... وهو يضحك. قال لي ذات مساء تعال لأريك المدينة بسيرةٍ أخرى وصورة لا تراها في النهار، سرنا صعوداً الى الجبال المحيطة بها والمشرفة عليها، سرنا بطرقات ملتوية بين وديانها حتى وصلنا ربوةً مطلةً على المدينة لا صوت فيها الا هسيس الريح وصوت العشب المتكسر تحت أقدامنا لنجلس في ظلام دامس لا يشغلنا الا عبير نبت الصحراء المحيط بنا بين الاخضر واليابس ينتشر في الارجاء ثم لوحة "بانورامية" ساحرة للمدينة اسفل منا، لوحة مرسومة بالاضواء الملونة وكأنها رسمت بألف كف بتناسق وانسجام عجيبين، تبدأ الاضواء الملونة متناثرة من على سفوح الجبال ثم تتزايد حين تنحدر بلطف ثم تشتد كلما اقتربت من المدينة لتتشابك في وسطها ثم لتخف على الساحل ولتذوب وتختفي في البحر، لقد رسمت هذه اللوحة كف القدر لتجعلها مشرقة بالليل كاشراقها بالنهار. لم اكن اود ترك هذا المنظر والعودة الى الفندق لقد سلب عقلي حسنها وأنا انظر اليها من بعيد وهي تشتعل نوراً وتتلألأ من كل جانب فتضاهي نجوم السماء جمالاً. لم تخلُ أيامي فيها من الدهشة وودت لو طال مكوثي فيها ولكني مؤمن ان لكل شي نهاية الا بياض الأكف، فالأيدي الندية يا سادتي لا تنالها ظلمات الليالي ولا سواد النهايات، تغيب شموس الارض ونجوم السماء ويحيا الناس ثم يذهبون وياتي من بعدهم خلف ليلحقوا بهم وتبقى منهم صنائع الايادي البيضاء تزين هذه الحياة لتكون عزاءً على ما أصاب الإنسان من عنت وخبث. لم تكن "اليكانتي" مدينة جميلة فحسب لقد كانت محطة مهمة في حياتي فقد رأيت فيها الوجه المبتسم لأوروبا وما زلت احسب ان للدماء التي تجري في عروق الانسان أثراً لا يبطله تعاقب السنين ولا تقادم الأعوام ولا يطفيء جذوته ركام الليالي والايام بل اني مؤمن لو ان للمسيح ذرية لرأينا اليوم من يمشي بيننا على الماء. أقسَم في يوم العودة انه سيقود سيارته مرة اخرى الى مدريد ليوصلني الى المطار بنفسه ولن يدعني استقل القطار. فلم يكن طريق العودة ممتلئاً بالضحك كطريق الذهاب كانت عودة هادئة وصامتة إلا من بعض سؤال وجواب ، لمحت في عينيه ساعة التوديع ألف دمعة مؤجلة ولمح في عيني الف نظرة للامتنان، تعانقنا عند بوابة المغادرة في مطار مدريد طويلا ثم افترقنا سار هو وبقيت أنا متجمداً أنظر اليه لعله يرسل لي بالتفاتة منه ضحكته الاخيرة لكنه لم يفعل. ركب هو سيارته وعاد الى مدينته وجعبته مترعة بالنبل وركبت انا الطائرة مغادراً وجعبتي مليئة بالغربة... ١- مدينة بحرية في جنوب اسبانيا
مشاركة :