حديث الشرق والغرب لونه أحمر - أميمة الخميس

  • 10/21/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

هناك عدة أسباب تدفعك لقراءة كتاب ضخم مكون من 600 صفحة! فقد يكون متطلبا بحثيا، أو مرجعا دراسيا، أو رواية فاخرة كرواية (اسمي أحمر) للروائي التركي الفائز بجائزة نوبل أورهان باموق. يقول (باموق) عن ظروف كتابته للرواية، كنت تقريبا بلا عمل أو أصدقاء أقطن في بيت أمي، وأعمل في الكتابة ما يزيد على 15 ساعة يوميا! ومن يكتب الرواية يعلم بأن تلك خمس عشرة ساعة ليست حالة كتابة متصلة يرصف فيها الروائي الأسطر ويحبر الصفحات، بل قد يمضي جلها في التأمل أو القراءة، أو التعمق في دروب وظروف مرحلة زمنية، أو استجواب ونحت إحدى الشخصيات بأزميل علم النفس، أو لربما الدخول في حالة الصمت الجليل الموحش الذي لاتسمع فيه سوى دبيب الحكاية فوق جدران ورشة ومعمل الكتابة الروائية. تلك الروح التنسكية التي كتب بها (باموق) أخرجت لنا (اسمي أحمر)، الرواية في البداية ليست نخبوية، ويمكن أن يتداولها القراء بجميع طبقاتهم، هيكلها أو بناؤها الفني يعتمد على فصول مقطعة تشبه خشبة المسرح بحيث تصعد عليها كل شخصية على حدة لتكمل لوحة فسيفساء هائلة تحوي كما كبيرا من المغامرات الإنسانية من حرب وحب وجشع وغيرة وحرمان، إذاً هذه رواية (اسمي أحمر) في مستواها الشعبي. لكن الذي لايكتفي من الرواية بهذا البعد ويبدأ في تأملها والحفر بين سطورها سرعان ما يتبدى له العمق الفكري والفلسفي والمهنية العالية التي كتبت بها الرواية، بحيث تظهر كغرفة مقدسة في معبد مهيب، تمتلئ جدرانها بالنقوش والزخرفات وبلعبة الضوء والظل وأطياف تجول وتهمس حكاياتها. ومن خلال لعبة اللون والزخرفة تبدأ الرواية ذات النفس البوليسي أول فصولها على لسان القتيل الذي يسرد تفاصيل موته، ومن ثم تتوالى الشخصيات بالظهور تباعا لتتشابك خيوط السرد وتتصعد الحبكة، على لسان عدد من الشخصيات العجائبية الخارقة، فقد تكون أحيانا اللون الأحمر يسرد بجمال فلسفي عميق مساحته في الحيز الجمالي لفنون ذلك العصر، ويظهر الموت كسارد، أو كلب من إحدى الرسومات بحضور يفاجئ ويذهل القارئ ويعطي الرواية ثراء وسعة أفق، وأيضا تشويقا يدفعه للهرولة فوق صفحات كتاب يمتد 600 صفحة. وجريمة القتل قد تكون مدخلا أو بوابة مواربة تفضي بك إلى لحظة تاريخية كان العثمانيون في أوج تألقهم العسكري، الذي رافقته نهضة حضارية كبيرة من ضمنها الاحتفاء بالكتب والرسومات التي تخلد انتصاراتهم العسكرية. فالرواية تدور حول رسامي ومزخرفي تلك الكتب: مكانتهم الاجتماعية، أخلاقياتهم المهنية وشروطها وتراتبها، استغراقهم الحرفي والإخلاص له؛ حيث يمضون عمرهم في سكب ماء العيون فوق الأوراق ورسم الغابات، والسلاطين، والزوارق، والنوارس، والغزلان.. فإذا شح بصر الفنان أو أصيب بالعمى فهو هنا قد تسنم المرتبة الأعلى في هذه الحرفة. وداخل هذا العالم الصارم المنضبط بتقاليده تحدث الصدمة عندما يبدأ رسامو العالم الإسلامي يطلعون على أعمال فناني عصر النهضة في إيطاليا وتحديدا البندقية، والذين أبدعوا في قولبة الرسم الثلاثي الأبعاد، الذين يضاهون به خلق الله، وهو الأمر الذي يتورع عن اقترافه الرسام المسلم العثماني، ويكتفي برسم الرسومات المسطحة كما استقاها من خياله، ومفسحا المجال بعض الشيء لتقاليد الرسم الفارسية والصينية لتشارك في رسومات الكتب. الصراع المحتدم بين التقاليد الفنية الأوروبية وتلك القادمة من الشرق والإرث القديم يمثل أبرز محاور الرواية، من خلال رسالة متصلة تخبرنا (أنه لكي يمر الجديد لا بد أن يكون هناك حالة قطيعة وموت مع القديم) كشرط وجودي للانتقال. الأمر الذي سبب داخل مجتمع الرسامين حالة غضب واتهام بالمروق والهرطقة والاعتداء على خلق الله، كان من نتائج ذلك الجيشان أكثر من جريمة قتل. تظهر بين قطع فسيفساء الرواية قصة عشق طريفة بين شكورة وقرة الولهان فتمنح الرواية زخما وتشويقا وأبعادا إنسانية لاسيما مع وصف الأغوار النفسية وخصائصها وتجلياتها وانكسارها وخوفها ورغبتها. لاينسى باموق أن ينهي الرواية بشكل يرضي القارئ العادي الذي يريد أن يسمع قصة (حدوتة)، فيتزوج العشاق بعد عناء، ويظهر القاتل وينال جزاءه، لكن هذا يتم بعد أن ينال القارئ النوعي المتطلب حقه، من المتعة الفنية الجمالية الأخاذة، عبر التاريخ والفلسفة والفن الروائي الرفيع لرواية لن نستغرب أنها صنفت من الأعمال الروائية الخالدة لهذا القرن. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net

مشاركة :