لم يكن من السهل على العديد من المؤسسات الصحفية العريقة الكبرى في العالم تقبل الخسائر المتوالية وتراجع إيراداتها عاما بعد آخر، ولا سيما أنها كانت متربعة على مدار عقود طويلة كمصدر رئيس للأخبار فحققت أرباحا عالية فاقت توقعات المساهمين في بعض السنوات، ولم تكن مؤسساتنا الصحفية العربية بمنأى عما طال المؤسسات الإعلامية العريقة في العالم من أزمة أصابت بعضها في مقتل. وأدى تراجع الإقبال على الصحف العريقة التي تطبع ورقيا إلى تراجع حصتها من الإعلانات التي تعد من أهم مصادر إيراداتها، ولم يكن هذا مستغربا في السنوات العشر الماضية، ولكن الأكثر غرابة هو عدم قدرة أغلب المؤسسات الصحفية العربية في منطقتنا على قراءة تلك المتغيرات قراءة صحيحة ومتأنية، بعيدا عن المكابرة والمماطلة والتغني بأمجاد الماضي. أسهم هذا الوضع وتلك الظروف في أن تصل بعض تلك المؤسسات الصحفية إلى تسريح عدد من موظفيها والاستغناء عن بعض من كتابها في محاولة منها لتقليل النفقات ومعالجة ما يمكن معالجته، لكن دون الدخول في المشكلة الأساسية وسبر أغوارها. لم يدرك بعض رؤساء التحرير أن قواعد اللعبة الإعلامية قد تغيرت، وأن ما كان معمولا به قبل سنوات لم يعد له قبول وشعبية لدى الجمهور في عصرنا الحالي. لقد حضرت منصات التواصل الاجتماعية بشكل قوي وفاعل في المشهد الإعلامي، وأصبح التعامل معها ضرورة وليس ترفا، كما أنها أصبحت هي المتحكمة اليوم برصد ونقل ما يحيط بنا من أحداث ومواضيع. في ظل هذا التغير الهائل في المشهد الإعلامي استطاعت بعض المؤسسات الصحفية العريقة في العالم قراءة المتغيرات قراءة صحيحة، واستفادت منها في تعزيز قدراتها وزيادة أرباحها. في الوقت الذي أغلقت فيه بعض الصحف أبوابها وانتهت وأصبحت من الماضي. لقد استطاعت المجموعة الإعلامية المالكة لصحيفتي الغارديان والأوبزرفر تحقيق إيرادات وأرباح جديدة في ظل الوضع الإعلامي الجديد فاقت ما جنته في تاريخها الطويل من نسخها المطبوعة، والسبب يعود لفهمها العميق وإدراكها لمتغيرات اللعبة الإعلامية الجديدة وتغير عالم الاتصال اليوم، حيث بلغت أرباحها 108.6 ملايين جنيه إسترليني في العام الماضي، بالمقارنة مع النسخ المطبوعة التي وصلت إلى 107.5 ملايين جنيه إسترليني، وفق ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية. لكن ما هي الوصفة الطبية التي عملت بها الغارديان لتحقيق أرباح فاقت أرباح نسخها الورقية؟ الإجابة كانت من خلال اشتراكات القراء عبر الانترنت الذين بلغ عددهم نحو 570 ألف مشترك يقدمون دعما ماليا منتظما، حيث كان لهذا العنصر الجديد دور كبير في تحقيق هذه النتائج غير المتوقعة، مع انخفاض الخسائر التشغيلية في العامين الماضيين من 57 مليون جنيه إسترليني إلى 19 مليونا. لقد أدركت الغارديان أن التحول للإعلام الرقمي بكل أشكاله ضرورة لمواكبة المتغيرات وتحقيق أفضل النتائج، حيث استطاعت ومن خلال التفكير بعقلية السوق الذكية إلى جذب نحو 155 مليون متصفح شهريا، مقارنة بـ 140 مليونا في العام السابق، مع تركيزها على الاحتفاظ بالقراء العاديين المستمرين على مطالعة موادها، حيث بلغ عدد المستخدمين المنتظمين لموقعها على الانترنت 10 ملايين قارئ. ولم يكن مستغربا بعد هذا التغير في العقلية الإدارية لتلك المؤسسة أن تنمو إيراداتها الرقمية من خلال مساهمات القراء، إضافة للإعلانات عبر الانترنت بنسبة 15%، في حين انخفض الدخل من الصحف المطبوعة. بهذه العقلية الذكية استطاعت الغارديان الانتقال من المرتبة التاسعة في قائمة أكبر الصحف على مستوى المملكة المتحدة، لتصبح ثالث أكبر صحيفة في العالم، وتحجز لها مكانا رياديا ضمن المؤسسات العريقة. لقد أدركت الغارديان أن مستقبلها يعتمد على تطوير أساليبها وتنويع مصادر دخلها مع تجديد في المحتوى بما يلبي طموحات العشرة ملايين قارئ لموقعها كي تستطيع الاحتفاظ بهذه المكانة الحالية والتقدم للأفضل. والسؤال الأخير: متى نرى مؤسساتنا الصحفية المحلية قادرة على الاعتماد على أنفسها في ابتكار طرق وأساليب إبداعية لزيادة إيراداتها والمنافسة، بدلا من التشكي من الوضع الراهن وطلبها من الحكومة تقديم مساعدات لها؟ @nalhazani المؤسسات الصحفية
مشاركة :