عرفت الحرب الباردة بين حلفي وارسو والأطلسي تعريف الردع النووي، بمعنى أن كل طرف كان يحسب ألف حساب وحساب لقوة الجانب الأخر، المعتمد في الأساس على صواريخه الباليستية، والتي تحمل رؤوسا نووية يمكنها أن تسحق وتمحق الخصم، الأمر الذي أدى في نهاية الأمر إلى تحييد الأسلحة النووية على الجانبين انطلاقاً من فهم واع ومسؤول، مفاده أنه لا طرف يمكن أن يخرج منتصراً والآخر مهزوماً في مثل هذا الصراع الجهنمي حال جرت به المقادير. غير أن حاضرات أيامنا تشهد نوعاً جديداً من أنواع الردع، أنه الردع النقدي، ذلك المتعلق بالتوازنات الاقتصادية والوفرة المالية في موازين العلاقات الخارجية المالية للأمم والشعوب، وهي التي باتت تحدد الكثير من نقاط القوة والضعف لدى الآخر، وتبين مسارات ومساقات المواجهات في القرن الحادي والعشرين. لماذا إعادة الحديث عن هذا الطرح الآن؟ الشاهد أن القمة التي شهدتها العاصمة الصينية بكين الأسبوعين الماضيين، والتي كرست لتعميق التعاون الصيني الأفريقي هي السبب الرئيس في طرح هذا الموضوع على مائدة النقاش من جديد. على أنه قبل الإشارة إلى تلك العلاقة الجديدة والوليدة بين الصينيين والأفارقة، ربما يتعين علينا التساؤل عن شكل العلاقات الأميركية الصينية وموقع وموضع توازن الردع النقدي الذي نحن بشأنه في هذا الإطار، باختصار غير مخل يكاد يكون المشهد بين بكين وواشنطن هذه الأيام في أسوأ صوره، والصراع على أشده اقتصادياً وقطبياً، وغير مستبعد خلال عقد من الزمان أن ينحو الأمر إلى صراع عسكري، إن لم ينفجر المشهد في منطقة بحر الصين الجنوبي سريعاً. وقبل أن يدلف دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أعلن مراراً وتكراراً أن الصين هي العدو الأول لبلاده، وفيما هو رئيس جالس سعيداً في البيت الأبيض، ها هو يفرض رسوماً وضرائب بمليارات الدولارات على الصين، ويتهمها بالتلاعب بعملتها ما يدعم ميزان مدفوعاتها وينتقص من نظيره الأميركي. الصين للذين لا يعلمون هي أكبر مستثمر في أذونات الخزانة الأميركية برقم يصل إلى ثلاثة تريليونات دولار، ما يعني أنه حال قيام الصينيين بسحبها، فإن الاقتصاد الأميركي سيهتز بشدة، وهذا هو «الردع النقدي» الذي نقول به، والذي تعلم عنه الصين علم اليقين. لكن الصين لا تفعل ذلك لسبب واضح جداً، وهو أنها لا تريد أن تخسر أكبر سوق لمنتجاتها في الوقت الحاضر، غير أنها تخطط ضمن رؤاها طويلة الأمد لفتح أسواق، بل وإغراقها بالمنتجات الصينية، وتعظيم أرباحها الاقتصادية، ما يؤكد قطبيتها القادمة. تاريخياً كانت الأمم والإمبراطوريات القديمة تنجح بادئ ذي بدء اقتصادياً، وعليه تتوسع إمبراطورياً حول العالم، الأمر الذي يتطلب قوة مسلحة كبرى تجوب البحار والمحيطات آناء الليل وأطراف النهار، وهو ما كان ديدن بريطانيا العظمى قبل الحرب العالمية الثانية، والولايات المتحدة الأميركية حتى الساعة. المتابعون للشأن الصيني يلفت انتباههم أمران هذه الأيام: طريق الحرير الجديد، والعلاقة مع قارة أفريقيا. طريق الحرير الذي تعيد الصين بناءه اليوم هو ضرب من ضروب القوة الناعمة والذي يختصم في واقع الأمر الكثير جداً من النفوذ الأميركي والغربي التقليدي، فهو طريق الحضارات والديانات والفتوحات. إنه الطريق الذي سار عليه دعاة البوذية والمسيحية، ونشر من خلاله التجار العرب الإسلام في ربوع آسيا. وعلى الطريق نفسه مضت جيوش الاسكندر الأكبر، وكذا «قورش» ملك فارس، وجحافل جنكيز خان، وهولاكو، وتيمورلنك، تقيم الامبراطوريات. كما قطع سهوله ووديانه شبان تسونج، وابن بطوطة، وماركوبولو وغيرهم من الرحالة العظام. تمضي الصين في طريق إحياء علاقات قديمة جداً مع حلفاء وأصدقاء، وربما أعداء تاريخيين، و«أعدقاء» غير معروفة مواقفهم، وهي بهذه القوة الناعمة تؤسس لمسارات ومساقات حضارية كونية جديدة. وفي الوقت عينه نرى الرئيس الأميركي ترامب يكاد يقطع حبال الود والتحالفات الناعمة القديمة والحديثة عبر رؤيته الاقتصادية الضيقة للغاية، ومثال ذلك ما يقوم به مع حلفائه من الأوروبيين بنوع خاص، وفرضه ضرائب على السلع الأوروبية وتحميلهم بأعباء إضافية ضمن موازنة حلف «الناتو» العسكرية. أما علاقة الصين مع أفريقيا فتحتاج إلى حديث مطول قائم بذاته، غير أنه من دون تطويل ممل، فإن إقدام الصين على جعل أفريقيا ساحة خلفية اقتصادية وعسكرية وسياسية، لهو أمر يغير كثيراً جداً من الموازين الجيواستراتيجية حول العالم. تعمد الصين إلى توازن «الردع النقدي» هنا أيضاً، ففي حين تلاقي دول أفريقيا عنتاً كبيراً من صندوق النقد والبنك الدوليين أدوات أميركا للتحكم في العالم اقتصادياً، يعلن الرئيس الصين عن منح 60 مليار دولار لأفريقيا، 15 ملياراً منها لا ترد، والباقي قروض ميسرة على عقود طوال، عطفاً على إسقاط ديون عدد من دول أفريقيا. حكماً لا شيء مجاناً تعطيه الصين فهناك مقابل، لكن القصة الآن لم تعد ردعاً نووياً بل قوة ناعمة وردعاً نقدياً...عالم مغاير يولد من حولنا.
مشاركة :