القاهرة- طفت قضية تراجع القوى الناعمة المصرية على السطح الأيام الماضية، ولم يعد يمر يوم دون نقاش في بعض وسائل الإعلام أو عبر الندوات والفعاليات الثقافية والسياسية حول أسباب هذا التراجع وأساليب معالجته، وبدا أن هناك جهودا لم تتبلور بصورة نهائية لإنقاذ مجالات لعبت دوراً مهمًا في نشر الثقافة والفنون المصرية في الدول العربية. وخرجت ورشة عمل عقدتها تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، مساء الخميس، وهي تكتل سياسي محسوب على الحكومة المصرية، شاركت فيها نقابة المهن التمثيلية والبعض من الفنانين، بمجموعة من التوصيات لحل أزمات صناعة المحتوى وإنقاذ القوة الناعمة، وحملت لهجة لم تكن معتادة من قبل، حيث تطرّقت إلى مشكلات التدخلات الأمنية في مسألة الرقابة ومنح تصاريح الأعمال الفنية، إلى جانب أزمات الاحتكار التي كانت سببًا مباشراً في تراجع الفنون بوجه عام. محمد عبدالرحمن: ضرورة الاهتمام بالأجيال الجديدة من الفنانين والموسيقيين محمد عبدالرحمن: ضرورة الاهتمام بالأجيال الجديدة من الفنانين والموسيقيين وطالبت التنسيقية التي يشارك 48 عضواً بها كنواب في البرلمان المصري بغرفتيه (مجلس الشيوخ والنواب)، بضرورة مرونة الرقابة من جانب المصنّفات وتخفيف التدخل الأمني في الرقابة ومنح التصاريح للأعمال الدرامية وزيادة الفرص التنافسية في الإنتاج وعدم اقتصارها على جهات وشركات معينة، وشددت على ضرورة الاهتمام بإنتاج الأفلام الروائية القصيرة والوثائقية. وأشارت الورشة التي حملت عنوان “مستقبل الدراما وصناعة المحتوى” إلى أهمية وضع خطط وطنية للدراما ضمن إستراتيجية الدولة 2030، وإتاحة فرص تصوير الأعمال الأجنبية بمواقع التصوير المصرية، وزيادة المنصات الرقمية ودور المسرح والسينما، والاهتمام بالشخصيات الوطنية في كل المجالات وعدم قصرها على عناصر الجيش والشرطة. وبدت توصيات تنسيقية شباب الأحزاب كمرآة كاشفة للتأثيرات السلبية التي ترتّبت على تراجع الحضور المصري في مجالات ظل لسنوات طويلة صاحب التأثير الأكبر فيها. وأكدت الورشة أن تطوّر القوى الثقافية والفنية لدول عربية مجاورة يشكل خصمًا من الرصيد الوطني في نظر دوائر حكومية تعتقد أن ذلك له انعكاسات سياسية واجتماعية لاحقا. ويرى مراقبون أن جذب النجوم المصريين في مهرجانات واحتفالات عربية وإبراز قيمتهم الفنية والاتجاه نحو الاعتماد عليهم في أعمال تنافس الفنون المصرية وتجعلها في مرتبة تالية أثار حفيظة دوائر ثقافية وسياسية في مصر، تسعى للضغط لتقديم المزيد من الدعم للإنتاج الثقافي والفني، وفتح الباب أمام عملية إصلاح شاملة تعيد ترتيب أوراق الحركة الفنية من جديد. واعترفت عضو مجلس الشيوخ سها سعيد خلال مشاركتها في ورشة عمل التنسيقية بأن الفن المصري في حالة تراجع، والقوى الناعمة جزء من قوة الدولة وتأخذ في التراجع، كما تواجه صناعة الدراما تحديات ولا بد من حلول تقدم للمجالس النيابية. ولم يكن الاعتراف بتراجع قوة مصر الناعمة مسألة علنية في فترات سابقة، وجرى التعامل مع إنتاج أعمال وطنية قامت بأهداف ترتبط بدعم الوعي على أنها عنصر قوة في مواجهة تطور فني هائل في صناعة الفن بدول مثل المغرب وتونس والسعودية والأردن، وأن التسليم به الوقت الحالي مؤشر على وجود رغبة لتحسين الوضعية المصرية شريطة أن يلقى ذلك دعمًا سياسيًا يسهم في انتشال الإنتاج الفني من أزماته. ماجدة خيرالله: توقيت تدخل الدولة لإنقاذ قوتها الناعمة تأخر للغاية ماجدة خيرالله: توقيت تدخل الدولة لإنقاذ قوتها الناعمة تأخر للغاية ويعد الاتجاه نحو دخول شركات إنتاج درامية غابت عن الساحة طيلة السنوات الماضية، وتوالي المبادرات التي دشنتها وزارة الثقافة لإنعاش الإنتاج السينمائي من خلال تقديم عروض شعبية متنوعة، وإدخال تعديلات على هياكل الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية وتدشين فضائية إخبارية، كلها محاولات جادة تمهد لدخول المنافسة العربية، لكنها لم تنعكس حتى الآن في شكل ملموس للارتقاء بالمحتوى. وقالت الناقدة الفنية ماجدة خيرالله إن توقيت تدخل الدولة لإنقاذ قوتها الناعمة تأخر للغاية، وربما ولّى زمنه، لكن ذلك لا يمنع تشجيع المحاولات الجادة التي تستهدف تغيير الصورة الراهنة، وما جاء من توصيات خلال ورشة عمل التنسيقية يشير إلى إمكانية الحصول على رؤية سليمة يمكن البناء عليها، فقد يتحوّل النقاش إلى فعل على الأرض. وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن مصر التي تعد بمثابة أستوديو طبيعي تبحث الآن عن تطبيق تجارب عربية نجحت في تحويل مناطقها السياحية إلى ساحة مفتوحة لتصوير الأفلام الأجنبية، وحققت مكاسب فنية ومالية هائلة، وأن استمرار الرقابة على المحتويات الفنية عبر المزيد من التعقيدات الأمنية في وقت ينفتح فيه لتقديم محتويات حققت نجاحات وجوائز كبيرة يشي بأن مصر أمامها الكثير للإصلاح الفني والثقافي. وأشارت إلى أن الإصلاح يتطلب قناعة من جانب المسؤولين بأن تضييق الخناق في الداخل يؤدي مباشرة إلى إنتاجه في الخارج عبر شركات إنتاج مصرية وبتمويل عربي، وأن وزارة الثقافة لا بد أن تستعيد دورها لتقديم مساعدات مالية لأصحاب التجارب الفنية على أن تحصل عليها مرة أخرى عند تسويق الفيلم، والبداية تتشكل من تقديم أعمال سينمائية ترقى إلى المنافسة الدولية وإن كانت لا تتخطى خمسة أو ستة أفلام. وتحدث نقيب المهن التمثيلية أشرف زكي بشكل أكثر شفافية عمّا تعانيه صناعة السينما، مشيراً إلى أن الدور المصري في هذه الصناعة تراجع، وأن السينما تعاني هموما كبيرة، وربط خلال مشاركته في ورشة التنسيقية بين أوضاع بلاده الفنية وبين المملكة الأردنية التي حققت 600 مليون دولار مؤخرا من صناعة الأفلام على أراضيها. ولم تكن الانتقادات التي جاءت في ورشة التنسيقية هي الوحيدة التي حمّلت مؤسسات مصرية مسؤولية التراجع، غير أن مقالات بعض الكتاب مضت على نفس النهج، ومن بينهم الكاتب والناقد الأدبي عبدالوهاب داوود. وأشار داوود إلى أن “الأصوات التي تؤمن بنظرية المؤامرة والاعتقاد بأن دولا عربية تسعى لسحب البساط من الفن المصري لا ترى كامل الصورة، أو تتغافل عن واحدة من أهم مكونات المشهد”. تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين حملت لهجة غير معتادة تجاه التدخلات الأمنية في الرقابة ومنح تصاريح الأعمال الفنية وذكر في مقال نشره الاثنين بصحيفة “الدستور”، التي تملكها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، إلى أن “ذهاب شركات الإنتاج السينمائي لتصوير شوارع مصر وحواريها، بل وأهراماتها ومعابدها، في المغرب، فذلك ليس لأن المغرب يحارب مصر، أو يكرهها أو أيّ وهم آخر، لكن لأن الجمارك المصرية، وصبية الشوارع، والمتحرشين بالأجانب هم من يكرهون مصر، ويحاربونها، ويقفون ضدها، ويتسببون في تفضيل أستوديوهات السينما في مراكش والدار البيضاء”. وذهب إلى أبعد من ذلك بتأكيده على أن “تكريم السعودية لكبار نجوم التمثيل والغناء في العالم العربي، وفي المقدمة منهم بعض النجوم المصريين لا يعني كراهية لمصر أو سحب البساط من تحت أقدامها، وإنما اللوم على أن تنتظر موت النجم حتى تحتفل بمنجزه، اللوم كل اللوم على شركات الإنتاج المصرية التي تحركها العلاقات، والوساطات، وتتجاهل نجومًا كبارًا لمجرد أنهم لا يروقون لأحد المتحكمين في إدارة الإنتاج، أو لا يدفعون نسبًا من أجورهم لوسيط يملك مفاتيح الظهور على الشاشات”. وأوضح الناقد الفني محمد عبدالرحمن أن عودة الدولة مطلوبة في هذا التوقيت لتمويل مشروعات فنية لا ترى مكاناً للظهور بسبب الهيمنة التجارية على أهداف شركات الإنتاج، وهو ما يقود في النهاية إلى أن تجد مصر نفسها بلا أيّ أفلام يمكن أن تنافس على جوائز الأوسكار، وإلى جانب هذا الدعم فإن العاملين بالمجال الفني في حاجة إلى دعم آخر يضمن تحسين جودة الأعمال المقدمة من خلال تخفيف الضرائب وتخفيض تصاريح التصوير في الشوارع والأماكن العامة. وطالب في تصريح لـ”العرب” بضرورة الاهتمام بالأجيال الجديدة من الفنانين والموسيقيين، والتوقف عن مهاجمة مطربي المهرجانات والراب وتغيير الرؤية التي تستهدف نفي هذه الأنواع من الفنون بشكل تام، وتقديم الدعم لأكاديمية الفنون وتحديث معاملها وقاعاتها والتي سبق وأن قدمت مواهب مصرية بارزة، وزيادة الاهتمام باكتشاف المواهب وتطويرها واستخدام منصات التكنولوجيا الحديثة في التعريف بمواهب لا تأخذ نصيبها من الشهرة، ورفع حصيلة مصر من المبدعين.
مشاركة :