الإمام محمد الخضر حسين التونسي الذي رفعه علمه وخلقه وجهاده إلى مشيخة الأزهر (44)

  • 9/29/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

المرحلة المصرية (24): قطوف من نقض الإمام لكتاب الدكتور طه حسين: كتب المؤلف (طه حسين) فصلاً تحت عنوان: الشعر الجاهلي واللغة. تحدث فيه عن: تعرف اللغة الجاهلية ثم تحدث عن القحطانية والعدنانية وأول من تكلم بالعربية واللغة القحطانية والعدنانية وأطوار اللغة العربية. ثم خاض في الحديث عن اتصال نسب العدنانية بإسماعيل عليه السلام فقال في (ص26): «والأمر لا يقف عند هذا الحد، فواضح جدًا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة، ويدرس الأساطير، والأقاصيص خاصة: أن هذه النظرية مكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية واقتصادية وسياسية». نقض الإمام: في استطاعة كل أحد أن يأتي إلى أي واقعة يقصها التاريخ ويتلو عليها هذه الكلمات لا ينقص منها حرفا فيدعي أنه ملم بالبحث التاريخي عامة والأساطير خاصة، ثم يشير إلى الواقعة بأنها نظرية مكلفة مصطنعة، ويذهب في تعليل تكلفها واصطناعها ما شاء ولكن باحثا غير المؤلف يقدر واجبات البحث العلمي ونتائجه فلا تجده يمس واقعة بتهمة الاصطناع إلا بعد أن يملأ يده بالدليل الطاعن في صحتها. يريد المؤلف من النظرية المكلفة المصطنعة: مسألة اتصال نسب العدنانية بإسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وقد أخذ من هنا يتحفز ليعلن الطعن في القرآن بكلام استرق سمعه من «ذيل مقالة في الإسلام» التي كتبها واحد من الكتاب. - ورود اسم في القرآن دليل على وجوده التاريخي: - من أخطر ما جاء في الكتاب: قال المؤلف في (ص26): «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم واسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة». نقض الإمام: ورود اسمي إبراهيم واسماعيل في القرآن يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، وإخباره عنهما بأمر يكفي للدلالة على وقوعه، وهو بالطبيعة يكفي هذه الأمم التي خالط قلوبها الإيمان بأن الرسول المؤيد بالآيات البينات لا يقول على الله إلا الحق، أما الذين لم يَبْصُروا بدلائل نبوته، ولم يقلبوا وجوههم في سيرته فليس من شأنهم الاكتفاء بخبر القرآن، ولا أن يدلهم ورود اسم شخص فيه على وجوده التاريخي، فلم يكن لهذه الكلمة المستعارة من «ذيل مقالة في الإسلام» وجه يشفع لمورودها في هذا النسق، فإن المسلمين حقًا يزدرونها وغير المسلمين لا ينتفعون بها ولا نرى لها من شأن غير إغواء النفوس التي لم تبلغ في إدراك الحقائق أشدها. قصة اسماعيل وإبراهيم كانت تدور بين العرب أيام جاهليتهم ثم ساقها القرآن على وجه محكم وبيان ساطع، ومن حاول الجهر بإنكار ما تتداول نَقْلَه أمة، ويقرره كتاب تدين بصدقه أمم، كان حقًا عليه أن يسلك مسلك ناقدي التاريخ، فيبين للناس كيف كان نبأ الواقعة مخالفًا للمعقول أو المحسوس، أو التاريخ الثابت الصحيح، ولكن المؤلف لم يسلك في إنكار هذه القصة طريقة نقد التاريخ، فيحدثنا لماذا لم يسعها عقله، أو كيف وقع على حسه ما يبطلها، أو من أين سمع أن مؤرخًا قبل صاحب مقال «ذيل مقالة في الإسلام» قال ما يناقضها؟! إذن لم يكن مع المؤلف سوى عاطفة غير إسلامية تزوجت تقليدًا لا يرى فحملت بهذا البحث وولدته على غير مثال. - قصة إسماعيل عليه السلام: قال المؤلف في (ص26): «ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبثون فيه المستعمرات». نقض الإمام: قلنا لكم: إن يد المؤلف تجول في بعض كتب شرقية، فيقطف منها ما يلائم ذوقه، ويضعه في كتابه على أنه وليد فكره، ونتيجة بحثه، وهذا البحث مما تعلق فيه المؤلف بذيل «مقالة في الإسلام» وإليك ما قال صاحب الذيل: «وحقيقة الأمر في قصة اسماعيل: أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود للعرب تزلفًا إليهم، وتذرعًا منهم إلى دفع الروم عن بيت المقدس أو إلى تأسيس مملكة جديدة في بلاد العرب يلجؤون إليها فقالوا لهم: نحن وأنتم إخوة وذرية أب واحد». لم يأخذ المؤلف في البحث مأخذ ذي أناة ينظر إلى ما عنده من أدلة أو أمارات أو شبه مثيرة للشك، ويفصل العبارة على مقداره فصاحب «الذيل» يقول: وحقيقة الأمر في قصة اسماعيل أنها دسيسة لفقتها قدماء اليهود والمؤلف يقول: ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة، وأنت إذا قرأت ما كتبه، وفحصته الكلمة بعد الأخرى لم تجد لديه ما يساعده على دعوى أنه مضطر إلى الاعتقاد أن في القصة نوعًا من الحيلة، فهذه القصة تعرض لها القرآن، وكان لها ذكر عند العرب قبل نزوله، فالذي يسهل عليه الحكم بكونها دسيسة أو حيلة، ويدعى الاضطرار إلى أن يراها حيلة، هو الذي يجد في التاريخ الموثوق بصحته ما يصرح بأن إبراهيم واسماعيل عليهما السلام لم يهاجرا إلى مكة، أو يصرح بأن العرب لم يكونوا ذرية اسماعيل - عليه السلام - أو يجد في سياق القصة ما يخالف حسًا أو عقلاً أو سنة من سنن الله في الخليقة، وكل ذلك لم يكن، وغاية ما فعل المؤلف: أنه اجتذب أصل البحث من كتاب «الذيل» ووقع اختياره على العلة الاستعمارية، فتشبث بها وزاد عليها ملاحظة الحروب العنيفة التي شبت بين اليهود والعرب، وجعل أيام تلك الحروب أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه فكرة وضع القصة، هذا مبلغ علمه من التاريخ وهذا ما اكتفى به في دعوى اضطراره إلى الاعتقاد أن في القصة نوعًا من الحيلة: وقد نظر جورجي زيدان في كتابه «العرب قبل الإسلام» لما جاء في التوراة والقرآن ثم قال: «وليس لدينا مصادر أخرى تنافي هذه الرواية أو تؤيدها». وهذه الكلمة أقصى ما يقوله الباحث غير المسلم متى وقف على جانب من الأنصاف ولكن المؤلف يقصد التشفي من غيظه على دين لا يرضى عن الإباحية المتهتكة. زعم المؤلف أن اليهود اخترعوا هذه القصة لتأكيد الصلة بينهم وبين العرب ثم قال إن فيها نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة، ويعني بهذا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام. اتخذها أيضًا وسيلة إلى عقد الصلة بين الإسلام واليهودية وبين القرآن والتوراة ليأخذ الأمة اليهودية بزمام الاحتيال إلى اعتناق الدين الذي قام يدعو إليه وهو الإسلام، وسنعرج على هذا الرأي في مناقشة الفقرات الآتية لأن المؤلف أعجب به، وطفق يعيده على قراء كتابه مرة بعد أخرى. * الحروب بين العرب واليهود: قال المؤلف في (ص26) «فنحن نعلم أن حروبًا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين هؤلاء العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد وانتهت إلى شيء من المسالمة والملاينة ونوع من المخالفة والمهادنة، فليس ببعيد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل اليهود والعرب أبناء أعمام»!! نقض الإمام: قد عرفت أن هذا الرأي غنمه حين غزا «ذيل مقالة في الإسلام» غير أن صاحب الذيل يقول: إن اليهود قالوا للعرب: نحن وأنتم إخوة وذرية أب واحد، وكأن المؤلف لم ترقه هذه العبارة فحولها إلى زعم أنهم قالوا لهم: نحن وأنتم أبناء أعمام. دخل اليهود البلاد العربية محاربين مستعمرين، وبعد أن ألقت الحرب أوزارها وانعقدت بينهم وبين العرب مسالمة ومحالفة ومهادنة، اصطنعوا هذه القصة التي تجعل اليهود والعرب إخوة كما يقول صاحب الذيل أو أبناء أعمام على ما يقول المؤلف، يخطر هذا التعليل على قلب من لم يدرس طبائع الأمم عامة وطبيعة الأمة العربية خاصة أو درسها ولكنه يتغابى عنها في كل حين يدعوه ذوقه وهواه إلى أن يصطنع حديثًا له، ولا يجد مندوحة من التغابي عنها أو الانسلاخ منها. لم يكن العرب في زعم المؤلف أو صاحب «الذيل» يعرفون الأصل الذي ينتمون إليه حتى حاربهم اليهود أو طمعوا في نجدتهم، فاصطنعوا لهم أصلا ربطوا به قبائلهم وهو اسماعيل أخو إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام -. لنقل أن العرب كانوا يجهلون الأصل الذي ينتمون إليه، وأنهم بلغوا من الغباوة أن تصنع لهم الجالية اليهودية نسبًا فيقبلوه على اختلاف قبائلهم ولنا أن نتساءل: هل كان هؤلاء العرب يؤمنون بنبوة إبراهيم واسماعيل قبل اتصالهم بهذه الجالية؟ أم كانو يسمعون بها ولا يؤمنون؟ أم كانوا لا يسمعون بها ولا يؤمنون؟ فإن كانوا يؤمنون بها فالإيمان إنما يكون عن علم شيء من تاريخ حياتهما وأقل واجب في هذا السبيل معرفتهم أين بُعثا وأين كان مقامها؟ وإذا كانوا يتلقون عن آبائهم حديث إبراهيم واسماعيل - عليهما السلام - وفرضنا أن اسماعيل لم يكن نزل بمكة ولا عاش بها طول حياته أو أكثرها فمن الصعب على تلك الجالية أن تعبث بعقول أمة كاملة وتحولها إلى الاعتقاد بغير ما عرفته خلفًا عن سلف دون أن تأتيهم بسلطان مبين. وإذا كانوا يسمعون بنبوتهما ولا يؤمنون أو لا يسمعون بها ولا يؤمنون فمن الجلي الواضح أن شرف إبراهيم واسماعيل وسمعتهما الفاخرة إنما اكتسباها من النبوة، وإذا كان العرب لا يؤمنون بنبوتهما، فهم لا يسلمون لهما هذا الشرف حتى يسرعوا إلى قبول ما تزوره لهم الطائفة المستعمرة فلا بد من أن يضاف إلى حديث الاحتيال: أن الجالية اليهودية أقنعتهم بصحة نبوة إبراهيم واسماعيل - عليهما السلام - حتى وثقوا بما لهما من شرف المنزلة وسمو القدر، ورأوا أن ربط نسبهم باسماعيل يزيد في فخرهم ورفعة شأنهم. وإذا كان في إمكان الجالية اليهودية أنه تقنعهم بنبوة إبراهيم واسماعيل فلماذا لم تقنعهم بما هي أحرص على إقناعهم به، وهو نبوة موسى - عليه السلام - فتكون بينهما وبينهم قرابة دينية وهي أشد صلة وأدعى إلى التآلف والسكينة؟ ولا ندري لماذا لم يعد المؤلف هذه الحروب العنيفة بأسطورة، مع قيام رواية بجانبها تقول: «إن السريانيين واليونان طردوا اليهود من بلادهم فقابلهم بنو اسماعيل بالترحيب، وتهود منهم كثير، لما رأوه في كتب اليهود القديمة من التعظيم للإله الذي اهتدى إليه الخليل - عليه السلام - لعبادته»؟ (وإلى حلقة قادمة بإذن الله).

مشاركة :