المرحلة المصرية (30): نقد اقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة. مازلنا مع جهاد الإمام في ميدان الأدب واللغة وقد ضربنا لك مثلاً – مجرد مثل وليست كل الأمثلة – لغيرته على الأدب ودفاعه عنه ووقوفه في وجه من يقول فيه منكرًا من القول وزورًا ولو كان طه حسين بخيله ورجله الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمعارف في مصر. وفي هذه المرة نسوق مثلاً آخر – مجرد مثل أيضًا – لدفاعه عن لغة القرآن التي أولاها اهتمامًا خاصًا، وأفرد لها أبوابًا ثابتة في المجلات التي ترأس تحريرها بدءًا من مجلة السعادة العظمى (تقدم الحديث عنها في المرحلة التونسية). ومجلات: نور الإسلام – والهداية الإسلامية ولواء الإسلام (سوف يأتي الحديث عنها إن شاء الله). وقد دعا كبار العلماء في اللغة والأدب إلى الكتابة في هذه الأبواب فأفادوا وأجادوا وأعادوا إلى العربية اعتبارها وقدرها بعد الهجمة الشرسة عليها من لغة المحتلين ومن دونهم من الأجانب. ولم يقف عند هذا الحد بل قدم لمكتبة اللغة العربية كتابين من أحسن ما كتب في بابهما أحدهما بعنوان: «دراسات في العربية وتاريخها» والثاني بعنوان: «دراسات في اللغة» أتى فيهما بالعجب العجاب من فيض ما وهبه الله من المعارف التي غابت عن غيره فكانا بحق صفحات من العطاء العلمي وثمرات من الفكر المبدع للإمام وصدق الله عز وجل: «نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم» [يوسف:76] لقد علا صيت الرجل وذاعت شهرته بين العلماء والأدباء ودعاة الإصلاح لما يتحلى به من العلم الغزير والتواضع الجم في غير منقصة ولا مذلة، والثناء العطر، فصدر مرسوم ملكي في 16 من جماد الآخرة سنة 1352هـ الموافق 6 من أكتوبر سنة 1933م بتعيينه وآخرين أعضاء بمجمع فؤاد الأول للغة العربية (مجمع اللغة العربية فيما بعد) بالقاهرة. وقد تأسس هذا المجمع بناء على مرسوم ملكي أصدره الملك فؤاد ملك مصر في ذلك الحين في 14 من شعبان 1351هـ الموافق 13 من ديسمبر 1932م لحفظ اللغة العربية وصيانتها من العبث وخدمتها بصفة عامة. لقد كان للرجل في المجمع جهد عظيم موصول ونشاط فذ مبذول حتى آخر يوم في حياته، فقد ترأس لجنة اللهجات وشارك في لجان: الآداب والفنون – المعجم الوسيط – الأعلام الجغرافية – دراسة معجم المستشرق (فيشر) المتعلق بالألفاظ القرآنية. كما أسهم في الكثير من المباحث العلمية الدقيقة التي نشرت على صفحات مجلة المجمع وقد أتى فيها بالجديد النافع، الذي يكشف عن وجه الصواب فيراه القراء ذا حسن وبهاء يأسر الألباب ويمس شغاف القلوب. لقد قدم الرجل إلى المجمع نقدًا «لاقتراح ببعض الإصلاح في متن اللغة» ولم يغب عن باله لحظة أن مقدم الاقتراح هو الأستاذ الكبير أحمد أمين صاحب المؤلفات العديدة وعميد كلية الآداب، ولنستمع إلى قول الإمام في ذلك: قرأت اقتراح حضرة الأستاذ أحمد بك أمين «لبعض الإصلاح في متن اللغة» فكنت ألاقي في هذا الاقتراح آراء مقبولة، وآراء كان المجمع قد أقرها، وجرى عليها في وضع كثير من المصطلحات، وآراء يصح أن تكون موضع بحث ومناقشة، وحيث إن المجمع قد عمل منذ نشأته على القاعدة التي لا يقوم العلم الصحيح إلا عليها أعني: منح الحرية المطلقة لكل عضو من أعضائه يريد أن يبدي رأيًا أو يناقش غيره في رأي، لم أتردد أن أعرض على حضراتكم ما بدا لي في هذا الاقتراح وانظروا ماذا ترون: ذكر الأستاذ في فاتحة اقتراحه: أنه يجب على اللغة أن تخضع لحياتنا تنمو بنمونا، وتسير مع زماننا، وزمن من يأتي بعدنا، وأن تسايرنا في تقدمنا وتكون أداة طيعة لتطورنا وقال: إن لغة كل أمة عنصر من عناصر تكوينها ورقيها وانحطاطها. وهذا الذي قاله الأستاذ لا يختلف فيه اثنان درسا شؤون الاجتماع وعرفا مقتضيات التطورات التي تتنقل فيها الأمم حينًا بعد حين، ولكن اللغة تخضع لحياة الأمم، وتنمو بنموها على قدر ما تدعو إليه الحاجة بحق وتسايرها في تقدمها، وتكون عنصرا من عناصر رقيها متى وقع زمامها في أيدي تقودها بحزم وأناة. ذلك أن الأحوال التي تطرأ على اللغة، أو التصرفات التي يراد إدخالها عليها قد تكون من مقتضيات التطور التي لا بد منها، وقد تكون أمراضًا تنذر بموتها أو عيوبا تذهب بكثير من محاسنها. تحدث الأستاذ عن علماء العربية، وجمعهم للغة في صدر الدولة العباسية وقال إنهم أكملوا متن اللغة بالتعريب، وبتوسيع الاشتقاق بالقياس وسايرت حركة الاجتهاد في اللغة حركة الاجتهاد في التشريع وقال: «ثم أصيب العرب بالضربة الشنيعة في الأمرين وهو إقفال باب الاجتهاد في التشريع وباب الاجتهاد في اللغة». ويقول الإمام تعقيبًا على ذلك: ادعى بعض الفقهاء أن باب الاجتهاد مقفل عندما أدرك الهمم ضعف، وقل في الناس من يدرس الشريعة دراسة تبلغ بصاحبها أن يكون مجتهدًا. لكن الراسخين في العلم – وإن ورثوا من السلف فتاوى وقضايا وأصولاً لاستنباط الأحكام – لم ينقطعوا عن الاجتهاد جملة، وكانوا لا يبالون بأن يناقشوا أقوال أئمة المذاهب ويتخيروا من بينها ما يرونه أرجح دليلاً وأوفى برعاية المصلحة ثم يطبقون على الحوادث المتجددة الأصول العامة أو القواعد المذهبية الخاصة كقاعدة المصالح المرسلة وقاعدة سد الذرائع وقاعدة رعاية العرف، واستمر القضاء والافتاء بفضل هؤلاء العلماء الذين يملكون أنظارا مستقلة جارين على منهج محفوف بعدل وسداد، ولعل كلمة إقفال باب الاجتهاد في الشريعة قيلت عندما تجاسر قليلو البضاعة في العلم على الافتاء وأفسدوا كثيرًا من الأحكام بدعوى الاجتهاد. وأذكر أنني كنت قد أنشأت في تونس منذ أربعين سنة مجلة السعادة العظمى وهي المدة بين كتابة هذا المقال وتأسيس المجلة المشار إليها وقد تقدم الحديث عنها في المرحلة التونسية من حياة الإمام وقلت في أول عدد منها: «ودعوى أن باب الاجتهاد مغلق لا تسمع إلا بدليل يساوي الدليل الذي انفتح به أولا». وأما الاجتهاد في اللغة، فلا أدري متى أقفل بابه، وما زال علماء العربية في القرن السادس والسابع والثامن يناقشون آراء المتقدمين، ويقررون أراء تخالف آراءهم، مثل: ابن مالك، وأبي حيان وابن هشام، وهذا ابن تيمية – وقد أدرك صدرا من القرن الثامن – قد كتب مخطئًا سيبويه في عشرات من المسائل، وهذا كتاب «بدائع الفوائد» لابن قيم الجوزيه عامر بمسائل خالف بها علماء النحو والصرف. ذكر الأستاذ: أنه وقع التحايل على فتح باب الاجتهاد في التشريع وقال «ولما لم تنجح هذه الحيل، كانت الضربة المخجلة، وهي إهمال التشريع الإسلامي والاعتماد على التشريع الأوروبي إلا في حدود ضيقة كالأحوال الشخصية». يقول الإمام: لم يفصح قلم عن وجه التحايل، حتى نأخذ معه بأطراف الحديث عنه، ونستطيع أن نوافقه، في عدم نجاحه أو نخالفه والذي أريد أن أقوله هنا: هو أن الاعتماد على التشريع الأوروبي لم ينشأ عن فقد الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وإنما نشأ من ناحية أن التصرف في المحاكم وقع في أيدي أشخاص لم يعرفوا كفاية الفقه الإسلامي للقضاء، أو عرفوا هذا ولكن لابستهم خواطر اتجهت بهم إلى استبدال التشريع الأوروبي بالتشريع الإسلامي، ونحن نعلم أن دولة شرقية أخلت محاكمها من الشريعة الإسلامية حين ذهب بعض زعمائها إلى الطرف الأقصى في محاكاة الأوروبيين ونعلم أن أمة أخرى استبدلت التشريع الفرنسي بالتشريع الإسلامي يوم كان رئيس وزارتها لا يؤمن بحكمة الشريعة الإسلامية. قال الأستاذ: «وأما في اللغة فكذلك نمت اللغة العامية على حساب اللغة العربية» واستعمل الناس في حرفهم وصناعتهم وحياتهم اليومية الكلمات التي يرون أنفسهم في حاجة إليها، ولو أخذت من اللغات الأجنبية محرفة ثم قال: «ولو استمروا على ذلك كانت نتيجة اللغة نتيجة التشريع ولا علاج لهذا إلا فتح باب الاجتهاد، لأن إغلاقه هو الداء». يقول الإمام: لم يكن سبب نمو العامية – إقفال باب الاجتهاد في اللغة وإنما سببه قلة التعليم، وعدم وجود جماعات تسارع إلى أن تضع لكل معنى يحدث اسمًا يليق به، وتذيعه بين الناس، كما فعل أصحاب العلوم فيما سلف إذ رأوا أنفسهم في حاجة إلى وضع مصطلحات المعاني التي لم يسبق للعرب أن وضعوا لها أسماء، فكثرت المصطلحات في الفقه والنحو والصرف والفلسفة والحساب والطب وغيره قال الجاحظ – يتحدث عن المتكلمين – «وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، واشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف وقدوة لكل تابع». ونبه أبو علي بن سينا في كتاب «القانون» على طرق يسلكونها لتسمية الأمراض التي لم يضع لها العرب أسماء خاصة، فقال: «قد تلحقها التسمية من وجوه: إما من الأعضاء الحاملة لها كذات الجنْب وذات الرئة، وإما من أعراضها كالصرع وإما من أسبابها كقولهم مرض سوداوي، وإما من التشبيه كقولهم: داء الأسد وداء الفيل، وإما منسوبًا إلى أول من يذكر أنه عرض له كقولهم: قرحة طيلانية منسوبة إلى رجل يقال له: طيلاني وإما منسوبًا إلى بلدة يكثر حدوثه فيها كقولهم: القروح البلخية وإما منسوبًا إلى من كان مشهورًا بالإنجاع في معالجتها، كالقرحة البيروتية، وإما من ذواتها وجواهرها كالحمى والورم». فلو أن جماعة من العلماء في العهود الماضية، أقبلوا على ما يرجع إلى الصناعات والشؤون الحيوية، من الأشياء المحدثة وأخذوا يضعون لها أسماء على نحو مصطلحات العلوم – لم يجدوا فيما أحسب – مفكرا يزعم لهم أن هذا اجتهاد في اللغة وإن باب الاجتهاد مقفل. (وإلى حلقة قادمة إن شاء الله)
مشاركة :