المرحلة المصرية (26): قطوف من نقض الإمام لكتاب الدكتور طه حسين: تعدد القراءات في القرآن واختلافها: قال المؤلف في (ص33): «وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه وتفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الذي تُلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة، حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينًا كثيرًا». ثم قال «ولسنا نشير هنا إلى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافًا كثيرًا في ضبط الحركات سواء كانت حركات بنْيَة أو حركات إعراب لسنا نشير إلى اختلاف القراء في نصب «الطير» في الآية: «يا جبال أوبي معه والطيرَ» [سبأ/10] أو رفعها، ولا اختلافهم في ضم الفاء أو كسرها في الآية: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» [التوبة/128] ولا إلى اختلافهم في ضم الحاء أو كسرها في الآية: «ويقولون حجرًا محجورًا» [الفرقان/22]. ولا إلى اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: «غُلبت الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون» [الروم/2،3] لا نشير إلى هذا النحو من اختلاف الروايات في القرآن، فتلك مسألة معضلة نَعرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج إذا أتيح لنا أن ندرس القرآن». نقض الإمام: الكتاب عنوانه «في الشعر الجاهلي» ولكن مؤلفه أولع بوثبات فجائية يقع بها على الطعن في القرآن فيضاهي قول الذين تساقطوا على عدائه، والصد عن سبيله من قبل. هل من أدب الدرس أن يسوق المعلم بنفسه مسألة لم يضطره البحث إلى ذكرها، ثم يقول لطلابه: تلك مسألة معضلة نعرض لها من بعد؟! وهل يليق بذي علم يؤلف في الشعر الجاهلي أن يكر على كتب الدعاة إلى غير الإسلام، وينبشها ليستخرج من شبهها ما يلصقه بأذهان هذه الناشئة قبل أن تشتد في الدفاع عن الحقائق قناتها؟! إنك لتجد أولئك الدعاة يتوسلون باختلاف القراءات إلى قذف القرآن بالاختلاف أو التحريف وكذلك فعل المؤلف، حيث نَقَّر في القراءات ولم يبال أن تكون شاذة، والتقط منها بعض آيات بدا له أن في اختلاف قراءتها ما يلبس حقائق الإسلام بالريبة، فأوردها في نسق، ورماها بالأعضال وما هي بمعضلة على أحد، ولكن المؤلف يعجب بالشبهة أكثر من الحجة ويؤثر لهو الحديث على الحكمة، والمسألة بحثها العلماء وقرروها على وجه خالص من كل شائبة، وهو إذا عرض لها ولما ينشأ عنها من النتائج لا يقول فيها إلا كما قال في الشعر الجاهلي، وأنتم تعلمون أنه لم يزد على أنه نهب واضطرب ثم افتخر وهجا. جاء في السنة الصحيحة ما يثبت تعدد القراءات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ويشهد بأن تلك الوجوه كانت تُتلقى بطريق الرواية عنه ومن هذه الدلائل حديث الجامع الصحيح للإمام البخاري عن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال صلى الله عليه وسلم: يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت» ثم قال: «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني فقال صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت» ثم قال «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه». وفي الجامع الصحيح للإمام البخاري أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف». فالحديث ناطق بتعدد القراءات وصريح في أن هذه القراءات المختلفة متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفة على السماع. وليس في هذا ما يعثر في قانون المنطق أو يضايق العقل في شبر من مجاله الفسيح، وهل يصعب على الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أن يفهم أن أحد أولئك الملائكة نزل على أحد هؤلاء الرسل بكتاب من تلك الكتب وبلَّغه بعض آياته على وجهين أو وجوه مختلفة في أوقات متعددة؟! أو اختلاف القراءات على نوعين: أولهما: اختلاف القراءتين في اللفظ مع اتفاقهما في المعنى ومن هذا النوع ما يرجع إلى اختلاف اللغات كقراءتي «اهدنا الصراط» (الفاتحة/6) بالصاد و(السراط) بالسين، إلى ما يشاكل هذا من نحو الإظهار والإدغام والمد والقصر، وتحقيق الهمز وتخفيفه. والحكمة في هذا تيسير تلاوته على ذوي لغات مختلفة. فلو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى على اعتياده طفلاً وناشئًا وكهلاً، اشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ثم لم يمكنه ذلك إلا بعد رياضة للنفوس طويلة وتذليل للبيان وقطع للعادة فأراد الله عز وجل بلطفه ورحمته أن يجعل لهم متسعًا في اللغات ومتصرفًا في الحركات. ومن هذا النوع ما لا تختلف فيه اللغات وإنما هما وجهان أو هي وجوه تجري في الفصيح من الكلام، نحو (وما عملت أيديهم) و«وما عملته أيديهم» (يس/30) وهذا النوع وارد على سنة العرب من صرف عنايتها إلى المعاني، ونظرها إلى الألفاظ نظر الوسائل، فلا ترى بأسًا في إيراد اللفظ على وجهين أو وجوه، ما دام المعنى الذي يقصد بالخطاب باقيًا في نظمه ومأخوذًا من جميع أطرافه، وفي هذا توسعة على القارئ وعدم قصره على حرف ولا سيما حيث كان محجورًا عليه أن يغير الكلمة عن القرآن ويحيد بها عن وجهها المسموع. ثانيهما: اختلاف في اللفظ والمعنى، مع صحة المعنيين كليهما وحكمة هذا: أن تكون الآية بمنزلة آيتين وردتا لإفادة المعنيين جميعًا، كاختلاف قراءتي (مالك يوم الدين) و«ملك يوم الدين» (الفاتحة/4) بغير ألف فقد أفادت إحدى القراءتين أن الله مالك يوم الدين يتصرف فيه كيف شاء وأفادت الأخرى أنه ملكه الذي يحكم فيه بما يريد. أما اختلاف اللفظ والمعنى مع تضاد المعنيين، فهذا لا أثر له في القرآن. قال أبو محمد بن قتيبة في «مشكل القرآن»: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير واختلاف تضاد، فاختلاف التضاد لا يجوز، ولست واجده – بحمد الله – في شيء من كتاب الله، واختلاف التغاير جائز. ثم ضرب لهذا النوع من الاختلاف أمثلة من الآيات، وأتى في بيان جوازه على ناحية أن كُلاً من المعنيين صحيح، وأن كل قراءة بمنزلة آية مستقلة، ولا جرم أن يكون هذا الاختلاف فَنًّا من فنون الإيجاز الذي يسلكه القرآن في إرشاده وتعليمه. والآيات التي سردها المؤلف (طه حسين)، منها ما يرجع إلى اختلاف اللغات كآية «ويقولون حجرًا محجورًا» (الفرقان/22) ومنها ما يفيد معنيين كل منهما مستقيم كآية «من أنفسكم» [التوبة/128]، ومنها ما جاء على وجهين كل منهما فصيح عربيه كآية «يا جبال أوبي معه والطير» [سبأ/10] أما آية «غلبت الروم» فنكتفي في الجواب بأن قراءتها بالبناء للمعلوم شاذة، والشاذ ليس بقرآن وما علينا ألا يكون له معنى مستقيم. * ختام الكتاب الأول: قال المؤلف في (ص41): «ولكنني بعدت عن الموضوع فيما يظهر فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين، وهو أن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين ولا عقليتهم، قد وضع وضعًا وحُمل على أصحابه حملاً بعد الإسلام؟ أما أنا، فلا أكاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر وانتحاله بعد الإسلام». نقض الإمام: ختم المؤلف الكتاب الأول بهذه الفقرات، وكأنه آنس في نفسه الفوز على «أنصار القديم» فدارت في رأسه نشوة، وانطلق يمزح معك بقوله: «ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر». يقول هذا، وهو لا يشعر بما تصنع الأقلام فيما تركه خلفه من آراء منهوبة، ومعان لا توجد إلا في خياله. يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل حضارتهم، ولم يبحث في هذا الموضع، ولا فيما سلف عن هذه الحضارة حتى يظهر أمرها، ويوازن بينها وبين هذا الشعر ليعلم: هل هو ملائم لتلك الحضارة أم غير ملائم لها، ولم يكن فيما سبق سوى أنه كان يدخل هذا المعنى في أثناء حديثه عن قوة عقليتهم واستنارتهم، وعلمهم بالسياسة كقوله: كانوا أصحاب عيش فيه لين ونعمة وقوله: وإذا كانوا أصحاب علم ودين وسياسة فما أخلقهم أن يكونوا أمة راقية! وكذلك كان يدخل في أثناء الحديث اسم الثروة من دون أن يدل على أسبابها أو يأتي على شيء من آثارها. والصواب أن من ينظر في هذا الشعر الجاهلي بشيء من التدبر وينظر في حضارة القبائل التي عاش فيها أولئك الشعراء بأي مرآة شاء وعلى أي مطلع تسنى له، لا يستطيع أن يدرك تفاوتًا بين هذا الشعر وتلك الحضارة، إلا إذا اشتد حرصه على أن يقول إن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء. فهذا الشعر الجاهلي يمثل من الحضارة ما يمثله شعر الإسلاميين قبل أن تلبس البلاد العربية ثوب الحضارة الذي نسجه فاتحو بلاد قيصر وكسرى ولا ينبغي لأحد أن يزعم أن الحضارة في الجاهلية كانت أجلى مظاهر، وأوفى وسائل من حضارة العرب بعد ظهور الإسلام. (وإلى حلقة قادمة بإذن الله)
مشاركة :