في حب العروس ألقيت الكثير من القصائد، كما كتب الشعراء أجمل الأبيات عنها، وفي وصف جمالها وبهائها تغنّى الكثير من الفنانين والفنانات، ورسم ونحت على جدارها هواة الرسم محليون وعالميون، يتخيلون جمال مدينة جدة التي يطلق عليها أهلها «عروس البحر». صراحة لا أعرف ماذا كان يصف هؤلاء الشعراء وما الذي أعجبهم في هذه المدينة، ولا تعرف هل كانوا يتغنون بمبانيها أم شوارعها أم سكانها وأهلها، أو أنهم كانوا يستلهمون إعجابهم من أمواج البحر التي تضرب شواطئها، وربما يكون المديح من جوها وليلها وصباحها الجميل. الحقيقة أن جدة ولدت جميلة وكبرت حتى أصبحت عروسا ولها عشاق، إلا أنه بعد أن حدثت لها جريمة اغتصاب رحل عشاقها ومحبيها، وما تبقى من الماضي الجميل يتذكرون جمال العروس وليالي السمر. والسؤال الذي لم يجدله أهالي جدة جوابا حتى الآن: من اغتصب جدة وسرق جمالها وشوه صورتها وحولها إلى مدينة بائسة مهملة؟ الناس تعيش على ماضيها الجميل وتتحدث بألم عن السنوات التي خلت، إذ إن «العروس» تمر بأسوأ احوالها. الأسبوع الماضي وخلال افتتاح ملتقى رسم الهوية المعمارية والحضارية، طرحت أوراق عمل عدة من أجل تحديد ملامح جدة المستقبلية، فاجأ أمين محافظة جدة الجديد صالح التركي، وربما لا أعتبرها مفاجأة بل صارحهم بالحقيقة عن وضع مدينتهم وكيف هي أصلا وعن وضعها. الناس يعرفون أحوال جدة ومع ذلك لا يريدون أن يسمعوا أي شيء يسيئ لها أو يشوه سمعتها، أهالي جدة، وليسوا جميعهم، يمدح في جدة كعاشق محب، وإذا جن الليل استباح فيها واغتصبها، يعبث اللصوص فيها وسرقوا أجمل ما لديها. أمين محافظة مدينة جدة جدد في كلمته أوجاع أهالي المحافظة حينما قال لهم متسائلا: هل نحن بالفعل نحب جدة، هل نوينا أن نحافظ على هويتها وعلى مواطن الجمال فيها؟ وأضاف مستغرباً، كلنا يدّعي حباً ووصلاً بجدة، واستحضر البيت المشهور في حب ليلى، لمن يدعي الحب، ثم يسأل هل من يدّعي الحب يسلب من مدينته هيبتها، وهل يتفق الحب مع استباحة الحرمة وتشويه الجمال. بعد هذه المقدمة استعرض التركي الأرقام المفجعة والمخيفة، فجدة اليوم بها ما لا يقل عن 60 حيا عشوائيا، كما أن 80 في المئة من مبانيها مخالفة للأنظمة، وبها 850 ألف حفرة تستوجب الإصلاح في المرحلة الأولى فقط، إضافة إلى 90 ألف بيارة مفتوحة، والمستنقعات والبعوض تغزو جدة حاملة حمى الضنك بدلاً من حمى المحبة والوجد. جدة تصارع محبيها الذين يعتدون على أراضيها وهي تحاول أن تدفع عن نفسها من قطّعوا ثوبها ورقّعوه بالورش والبقالات العشوائية وفرشات الخضار حتى غلبت الرقع على ما تبقى من الثوب، ويختتم التركي قائلاً: «جدة لم تلتزم بأي كود عالمي ولا حتى بالكود السعودي في تخطيطها من أرصفة وغيرها». مضت 60 يوماً منذ أن اعتلى صالح التركي مقعد أمين محافظة جدة، وكان بإمكانه أن يكون مثل من سبقوه يتحدث عن أحلام ويتغنّى حباً في جدة وعن بعض المشروعات من جسور وتقاطعات وقليل من المساحات الخضراء وترميم الحدائق، وعندما يغادر يقام له حفلة وداع، إنما أمين جدة الجديد قادم من مجتمع المال والأعمال في السعودية، من بين بعض من استباح جدة وهي تصارع محبيها ويعتدون على أراضيها. لم يرغب أمين جدة أن تمر الاشهر الأولى من دون أن يصارح أهلها بما يواجهه من مصاعب ويتطلب تعاون الجميع معه من مسؤولين ورجال أعمال وأهالي، ولهذا قرر أن يخوض أصعب الطرق حتى يضع لمساته، وهي من أهم التحديات التي سيواجهها، لأنه سيلتقي من يحب جدة، وسيلتقي بمن يريد أن ينهبها أو يسرقها. على التركي أن يضع خطة لمعالجة الخلل. صحيح أن جوانب التقصير التي ذكرها في كلمته يتحمل جزء منها الأهالي والمواطنون في إهمالهم، إلا أن الجزء الاكبر منها يتحمله بعض موظفي الأمانة وإهمالهم وتهاونهم وعدم تطبيقهم القوانين، بل إن البعض منهم - وهم قلّة - كانوا يكتفون باستحصال الغرامات ومصادرة المخالفة لحسابهم الخاص. دهاليز وطرق وأدوات سرقة جمال جدة متعددة، سواء من خلال منح عقود التشغيل والصيانة أم المشروعات بمحسوبية أو بالواسطة، إذ إن فتح المظاريف أحد أشكال المظاهر، كما أن الأحياء العشوائية لم تخرج من باطن الأرض، بل ولدت وكبرت أمام أعين المسؤولين، كيف وافقوا على أن تكبر مشوهة، والأراضي التي نهبت وسرقت لم تكن في جنح الظلام، بل سرقت تحت الشمس وبماركة الكثير من المسؤولين، وربما هم من وافقوا على البناء عليها والحصول على الخدمات. طرحت العديد من المقترحات خلال ملتقى رسم الهوية المعمارية والحضارية، وكأنه بدا غير واضح من خلال المشاركين ما الذي يبحثونه في أوراقهم التي طرحوها، هل يريدون تحديد هوية مدينة جدة على أنها بوابة الحرمين، أو أنها المدينة السياحية والتجارية، أو أنها مدينة صناعية، أم أنهم يريدون تحديد هوية المباني العمرانية وصورتها ومكوناتها، بصراحة جدة تريد من يحبها، ونريد أن نرى هذا الحب ظاهرا في سلوكنا وتعاملنا مع هذه المدينة، يهمنا الآن ليس مكافحة ومطاردة اللصوص، إنما لا نريد لصا جديدا أو مستبيحا لجمالها. أمام أمين محافظة جدة صالح التركي تحدٍ صعب، ويتطلب أن يشارك معه أهالي جدة من مسؤولين ورجال أعمال. * كاتب وصحافي اقتصادي. @jbanoon
مشاركة :