إن القدرة على إدراك انعكاسات تطور التقنية على مصير الإنسان اليوم تحكي واقع العالم الذي ما زال قيد التغير بعد الصراعات والفوضى والاستراتيجيات الكبرى السياسية والاقتصادية، والنظام المالي ككل، عطفاً على تعميم عولمة الاقتصاد وعولمة الإرهاب وزيادة مطردة في المكونات السياسية والتعاملات التجارية، وعلى أثرها ستتغير الأنماط والأنظمة الاقتصاديّة والثّقافية والاجتماعية، وخرائط الدول والعادات والتّقاليد السائدة، ويقود ذلك إلى تحولات كبيرة تنحصر في إطار اقتصادي وحياة عمومية سياسية اقتصادية جديدة، فهل يتعلق الأمر في هذا المقام بالانقلاب على العولمة التي أوجدها النظام العالمي بديلاً لجميع استدلالات الحياة العامة.لا شك أن ثمة أهدافاً للدول تفاوتت بين استعدادات قديمة وحديثة لهذه المرحلة، فهذه القوة العظمى الأميركية تتحرك متأثرة بخطر العولمة، وما تكبدته من عجز تجاري في آخر عشر سنوات حيث بلغت 13 تريليون دولار، ومن ثم تجاوزت إلى 800 مليار دولار، وشكلت هذه الخسائر تهديداً كبيراً، إذ جسدت هذه المسائل مزيداً من التشابك في الاتفاقات وفرض القيود التجارية، فما صنعته للعالم يميل شيئاً فشيئاً إلى محو الثغرات الموجودة في العولمة لتوجد لنفسها استمرارية اقتصادية هائلة، وخصوصاً في خضم أكبر حرب تجارية في التاريخ مع الصين.الصين هي الطرف الثاني في هذه الحرب مع واشنطن بعدما تأكد ذلك، ففرضت رسوماً على 5200 منتج أميركي، وتمنع الشحن والتأمين مع شركات أميركية وتغلق مصانع السيارات الأميركية. كما تتهم بكين واشنطن بوضع سكين على رقبتها وفرض رسوم أميركية على سلع صينية بقيمة 200 مليار دولار، ما دفع الصين إلى فرض رسوم إضافية على منتجات أميركية بقيمة 60 مليار دولار، وإلغاء عقود الإنشاءات الكبرى مع الشركات الأميركية، بينما تسمح لشركات أوروبية بفتح مصانع لها في الصين.لنتذكر فقط ما قاله ألفريد ماهان، وهو عالم عسكري أميركي لم يعِش لمؤتمر فرساي، ولكن تأثيره في أميركا وأوروبا والعالم كان كبيراً، كرس جميع كتبه وجهوده لموضوعه القوة البحرية، فقال إن «المصير المعلن لأميركا هو مصير البحر، وقد أخذت أميركا بآرائه»، وكان قد توصل منذ أكثر من قرن ونصف القرن إلى أن «الخطر الأكبر على أميركا هو الخطر الأوراسي (الصين وروسيا)».من هنا نتساءل عن مفهومين مهمين بحاجة إلى توضيح؛ وهما: ما الذي يريده الرئيس دونالد ترمب بعد فرض الرسوم الجديدة، واتجاهه لتقويض منظمة التجارة العالمية؟ وما محددات الوصول على المستوى القومي عن تنفيذ اتفاقات منظمة التجارة العالمية واتخاذ التدابير المناسبة لذلك؟ وهل انطوت تلك الاتفاقات؟ومثل هذا التنازع بين الدول والولايات المتحدة على اعتبار أنه حماية لأمنها القومي، وتلك الإجراءات معطلة للعولمة التي روجت لها أميركا وهي الآن تريد أن تنسفها، لا سيما أن هناك الأزمة المالية المقبلة على مستوى العالم - أزمة غربية وأميركية - تنبع من الغرق في ديون تبلغ 250 تريليون دولار، ولا إشارة إلى تراجعها.. الأزمة المالية ستضرب بالأخص أوروبا وأميركا، وهناك دول مثل بريطانيا وإيطاليا وفرنسا ديونها أكبر من ناتجها المحلي، وفي تصاعد مستمر والمسألة تعتبر مسألة وقت، قبل أن تنفجر الأزمة وتؤثر في كثير من دول العالم.وحسب قراءة مستفيضة لهذا المشهد الدولي، نجد أنه تضمن شروطاً وقيوداً سيتم تطويرها في مفاوضات مستقبلية، حتى إن أفلس كثير من شركات غربية وأميركية عملاقة بسبب عدم تحصيل ديونها ووقف مشاريعها، علماً بأن القوى العظمى تنتهي من داخلها حسب علم الاجتماع السياسي وتجدد نفسها بالاستراتيجية الداخلية من الاقتصاد الصناعي أو ما بعد الصناعي، واليوم أقوى الشركات في العالم أميركية تتحول بأهدافها دولة عظمى لا أحد يجاريها، أو يقف نداً لها.وبالنسبة للصين فإنها تطمح للعب دور المتفوق على أميركا من جوانب أخرى، حيث تستورد السلع النادرة، إضافة إلى أنها ثاني دولة في استخدام النفط، وهذا يعطيها قوة هائلة، لأنها سوق ضخمة وربما ستزيح أميركا من عرش الدولة الأولى في العالم، وذلك خلال فترة تتراوح من عشر إلى عشرين سنة مقبلة لحسم النظام القديم، ولذلك فإن الحرب قائمة بكل الأشكال والألوان.والمحصلة من تحليل هذا المشهد المجرد من العواطف والانحيازية، هي أن أميركا توشك على تثبيت الأدوار التي وصلت إليها والتخلص من الكل أو من البعض، وكذلك الحال مع روسيا التي لا تملك مقومات الندية مع أميركا باستثناء دورها العسكري الاستعراضي في منطقة الشرق الأوسط وتحالفها مع الصين، وهذه الخطوة تثير مكانة القوانين والتشريعات، فهل التشريع القومي يعد كافياً لخرق نص الاتفاق حتى لو أن بكين تنفي سعيها لانتزاع مكانة واشنطن عالمياً؟!
مشاركة :