حقيقة أن الحفر تحت ركام الواقع الدولي المُتعيَّن، هو أمر من شأنه أن يجعلنا نتساءل: أي شيطان رجيم هذا الذي يدفع بالبشرية نحو الفناء؟ إذ كيف اقتيدت إلى هذا الواقع الكارثي؟ وكأنها تندفع لهوّة سحيقة. فها هو العالم وقد أوشك على التورط في حرب عالمية ثالثة، وقد سبقه صعود للأيديولوجيات العنصرية، كالفاشية والنازية والستالينية، وتفشي الأنظمة التوتاليتارية في إصدراها ما بعد الحداثي، وتطور أسلحة الدمار الشامل بشكل مخيف، في ظل تفاقم الصراعات والتوترات العسكرية، مُنذِرة بحرب كونية من شأنها إبادة الجميع، ولعل ما يحدث في أوكرانيا هو بمثابة تدشين لبداية كارثية. واحدة من القناعات الضاربة بجذورها عميقًا في وجداننا، هي الإيمان بأنه في ظل النظام العالمي القائم سيكون عسيرًا للغاية، بل وربما مستحيلًا، نفي تلك الصراعات من الوجود الإنساني عبر التوصل لتسوية عادلة لها، ومن ثم إقرار صيغة حقيقية للسلام والتراحم على هذا الكوكب. فهو نظام عالمي يحكمه منطق القوة ومعادلة البقاء للأقوى، حيث الحيتان الكبيرة تبتلع الأسماك الصغيرة، ولا يعبأ بالقيم الإنسانية الخالدة أو بالمثل الأخلاقية التي توافقت عليها البشرية بعد تراكم خبرات طويلة، أو بالأطروحات ذات الأبعاد القيمية الإنسانية الراسخة، إذ جرى تهميش قوة الحق في مقابل تصعيد حق القوة. فالفرد الغربي هو الشخص المختار، ومن ثم فالغرب هو بدوره الشعب المختار، فهو المتميز أخلاقيًا وماديًا وعقليًا. اقرأ للكاتب | قال الحجر للرصاصة… “شعر” محمد عمارة تقي الدين الغرب هو المركز، والآخرين أطراف تعيش على الهامش، وأن مبرر وجودهم هو لخدمة هذا المركز، أو كسوق لمنتجاته، أو للعمالة الرخيصة وبيع الدواء والسلاح، أو كفئران تجارب لهذا الدواء وذلك السلاح. ولأنهم عبء على البشرية، فالعبقرية تكمن في القدرة على توظيفهم كخدم لها ليس أكثر، وإن كان الخلاص منهم سيسير في صالحها فليكن. من رحم تلك النظرة الاستعلائية انبثقت الحضارة الغربية، وانبثق معها النظام العالمي القائم بكل ظلمه وعنصريته ومنطق إبادته، ولعل حق الفيتو هو أحد تمظهرات عدم العدالة التي تسم هذا النظام. وفي هذا الشأن يتساءل ناعوم تشومسكي، وهو مهجوس بالخوف، عن ملامح العالم الذي سيتركه هذا الجيل للأجيال القادمة، مؤكدًا أن المشهد يتَّشح بالسواد، فهناك ظلالًا سوداء تُخيّم عليه، وأهمها شبح الحرب النووية والكوارث البيئية، التي قد تمحو هذا الكائن البشري من على ظهر الكوكب. واحدة من الدراسات العلمية، والتي تدفع بهذا الاتجاه، تؤكد أن مئة مليون شخص سيموتون في العشرين عامًا القادمة بسبب تغير المناخ نتيجة للتلوث البيئي الكارثي الذي صنعته يد الإنسان، هكذا ودون حروب، فما بالنا لو اندلعت حرب نووية كبرى على خلفية ما يموج به العالم من صراعات حيث يبحث كل طرف عن مصالحه الآنية ولو كلفه ذلك حياة ملايين البشر. من هنا يتحتم وضع سيناريو قابل للتطبيق لإنقاذ هذا الكوكب من مصير كارثي إذا تُركت قوى الدفع نحو الحروب والدمار تسير بذات الوتيرة دون محاولة كبح جماحها. ولعل نظرية صدام الحضارات التي طرحها صامويل هنتنجتون هي الأكثر تعبيرًا عن طبيعة النظام العالمي القائم، والمتأسس على الانحياز التام للحضارة الغربية باعتبارها الحضارة المركزية، وسائر العالم يتحتم عليه أن يدور في فلكها. يرى هنتنجتون أن صدام الحضارات حتمية لا مفر منها, فالعالم يعيش في فوضى كونية، متمظهرة في صدامات بين تكتلات تـنتمي لحضارات مختلفة. ونحن هنا لسنا في معرض تفنيد زيف هذه الأطروحات وإضاءة تهافتها، فقد قام بتلك المهمة كثيرون، ولكن الذي يعنينا أن أطروحات هنتـنجتون تلك أضحت بمثابة النص المُقدَّس الذي يستلهم منه الكثير من القادة الغربيين سياساتهم. ومن زاوية أخرى يتحدث الأستاذ الفضل شلق عن الظلم الطبقي داخل النظام العالمي القائم فيقول:”يمتلك أقل من 1% من البشرية أكثر من نصف ودائع المصارف، الجنود الذين يموتون في القتال هم أبناء الطبقات الدنيا، تلك الطبقات الدنيا يجري شحذها أيديولوجيًا كي يسير إليها الحقد وتكره الشعوب الأخرى، والفقراء هم من يدفعون كلفة الحرب بأجسادهم وأموالهم “. اقرأ للكاتب | إدوارد سعيد… المثقف المُنشق لقد حذرت مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة، في كتابها الذي حمل عنوان(التحذير من الفاشية) من تصاعد الفاشية بعد انتخاب دونالد ترامب باعتباره أول رئيس غير ديمقراطي في تاريخ أمريكا، إذ يتّبع سياسات من شأنها القضاء على الديمقراطية الأمريكية بشكل تدريجي، مثلما كان يروج موسوليني بأنه يتحتم نتف ريش الدجاجة الريشة تلو الأخرى كي لا يلاحظ أحد، مؤكدة أن الخوف من الآخر والغضب منه هما المحركان الأساسيان للفاشية، وأنه علينا أن نرى أسباب الخوف والغضب ونعالجها، فترامب هو هتلر الجديد الذي أراد أن يقود أمريكا والنظام العالمي معها إلى الجنون. تأسيسًا على ذلك فنحن نؤمن إيمانًا قطعيًا بأنه لا حل للصراعات البشرية بشكل عادل في ظل هكذا نظام، بل إنه نظام من شأنه أن يدفع بالكوكب إلى حافة الانتحار. ومن ثم فعلى دعاة الإنسانية تبصير البشرية بأهمية السعي نحو تأسيس نظام عالمي جديد أكثر إنسانية وأقل مادية، نظام أكثر قيمية وتراحمية في مواجهة النظام العالمي الحالي القائم على معادلة البقاء للأقوى ماديًا وليس للأصلح قيميًا وإنسانيًا. ولكن هل من معقولية في هذه النظرة العالمية، والتفكير الكوكبي الداعي لإصلاح النظام العالمي برمته؟ أليست من قبيل اليوتوبيا العصيّة على التحقق في عالم الواقع، على الأقل في المستقبل المنظور، في ظل تردي الأوضاع الدولية الراهنة؟ نعتقد أنه كذلك في اللحظة الآنية، لكننا يجب أن نُهيئ العقل البشري لهذا البديل المستقبلي ونحثه على الدفع نحوه، باعتباره في اعتقادنا واعتقاد كثيرين غيرنا، هو الحل الوحيد لإنقاذ البشرية من مصير كارثي مُحدق تتجه إليه بقوة. ومن ثم فعلى البشرية في لحظتها الراهنة أن تدفع نحو تأسيس نظام عالمي جديد أكثر تراحمية وأكثر ديمقراطية تشاركية وعدالة للجميع، وهو نظام من شأنه أن تتلاشى داخله كل هذه النزاعات الدولية وينحسر العنف إلى أقصى درجة. وإلا فستظل أيديولوجيات العنف(دينية وغير دينية) تُعيد إنتاج نفسها من جديد، في متتالية انشطارية لا تتوقف، ولكن بصيغ مختلفة وبإصدارات أكثر عنفاً، في ظل هذا الواقع الدولي المُثقل بالمادية النفعية. ففي ظل نظام عالمي تشاركي إنساني قيمي، نأمل أن تتأسس دعائمه مستقبلًا، في ظل هكذا نظام ستتحقق العدالة للجميع، وتتقلص الصراعات الدولية بشكل كبير، وستتراجع أطروحات العنف والتشدد(الديني والقومي) إلى حدها الأدنى لتحل محلها أطروحات التسامح وقبول الآخر. قطعًا هو حلم أشبه باليوتوبيا المثالية العصيّة على التحقق في عالم الواقع بكل تعقيداته وارتهاناته، لكن الأمل يظل قائمًا في عدالة قادمة لا محالة، وهو أمل يعززه الإيمان بوجود إله عادل لهذا الكون. الحقيقة أن الحضارة الغربية بما أفضت إليه من قيم مادية أفقدت الإنسان أبعاده الروحية، وعلى ما يقول ماكس فيبر:”الحضارة الغربية حاصرت الإنسان في قفص حديدي وسرقت روحه”، والغرب من منظور دستوفيسكي، دمرته قيم المادية وضمور الحــس الخلقي والنفعية والتمركز حـول الذات، وهو ما يدفع باتجاهه ين فو(Yan Fu)، إذ يذهب إلى أن التقدم الغربي قد حقق أربعة أمور مغرقة في بشاعتها: موت الإحساس بالخجل والعار، الأنانية المفرطة، قتل الآخرين دون وخز من ضمير، فقد الاستقامة والبوصلة الأخلاقية. وربما هذا ما دعا مارك توين لأن يقول:”يجب أن تصطبغ الخطوط البيضاء فى العلم الأمريكى باللون الأسود وتستبدل النجوم بجمجمتين كبيرتين وعظمتين متقاطعتين”، كما يقول نيسلون مانديلا في معرض هجومه على الولايات المتحدة بسبب عدوانها على العراق:” لو أن هناك دولة ارتكبت أكثر البشاعات جُرمًا في هذا العالم، فهي الولايات المتحدة الأمريكية”. فها هي البشرية وقد طارت بجناحين: أحدهما عملاق وهو التقدم المادي، والآخر قزمته صراعات طويلة وأطروحات الإقصاء ذات النزعة العنصرية، وهو التقدم الروحي، فاختل الطيران وكادت أن تسقط. هي إذن بحاجة لخطة عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الروح التي قوضتها مرحلة ما بعد الحداثة، فسقط الإنسان في هُوّة العدمية وافترسه فقدان المعنى. وكما يُقال فكل تقدم مادي يتطلب تقدمًا روحيًا يفوقه أو على الأقل يساويه لتستقيم المسيرة الإنسانية. لذا كان محمد إقبال يصف الحضارة الغربية بأنها الحسناء الفاجرة، فهي جميلة (المظهر)، لكنها رديئة وخاوية(الجوهر)، وهو ذات ما أدركه ألبرت آينشتين حين كان يردد:”حاول ألا تكون رجل النجاح بل رجل القيمة”. ولكن ما دور الأديان في ذلك؟ من دون شك فالأديان بما تحويه من قيم إنسانية أخلاقية تراحمية يمكنها أن تمد هذا النظام الجديد بما افتقده النظام العالمي الحالي في هذا الجانب، ومن ناحية أخرى ففي ظل هذا المناخ غير المأزوم الذي نأمله نعتقد أنه من الممكن بناء رؤى وأطروحات دينية ذات صبغة إنسانية أخلاقية من شأنها إزاحة الأطروحات المتشددة والعنيفة واللإنسانية للأديان، وهي الأطروحات التي انبثقت عن واقع كانت سمته الأساسية الظلم والقهر ومن ثم جاءت انعكاسًا له. كما أنه علينا أن ندرك أننا لسنا بحاجة لمجرد إحياء النزعة الأخلاقية في الدين، كما يحدثنا عبد الجبار الرفاعي، بل العمل على توليد نسق إنساني متكامل من داخل نصوصه لتنضبط به حركة الحياة، نسق يمكن أن ينسحب علي كل الأديان عبر تأكيد المشترك بينها من قيم التسامح والتراحم والعدالة والأخوة الإنسانية، ومن ثم بناءها وتحققها وممارستها الفعلية في الواقع. فالأمر بحاجة لثورة فكرية كبرى، لصناعة ثقيلة للعقل الإنساني تأخذ على عاتقها إنجاز تلك الغاية السامية، يقول الفيلسوف الوجودي مارتين هايدجر:”لن ينقذنا إلا إله جديد”، ونحن نقول لن ينقذنا إلا تصور جديد للأديان وقراءة مغايرة لها، قراءة تتمركز حول النزعة الإنسانية والتراحمية الكامنة بها. ومن دون شك فقيم التسامح والأخوة الإنسانية القابعة داخل نسق الأديان، تلك القيم المُتسِمة بالوفرة داخل هذا النسق يمكن أن تفي بهذا الغرض. وفي التحليل الأخير، نعتقد أنه على البشرية في لحظتها الراهنة أن ترفع شعار(الإنسانية تريد بناء نظام عالمي جديد) ليتأسس نظام عالمي جديد ذو صبغة إنسانية من شأنه أن تتلاشى داخله كل هذه النزاعات الدولية وينحسر العنف متراجعاً عن مستعمراته المتخذة شكل الأرخبيل الممتد ضارباً بجذوره في قلب كل بقعة من هذا العالم ومُهدداً البشرية بنهاية مأساوية. ولتكن الخطوة الأولى بإجراء إصلاحات جذرية على هيئة الأمم المتحدة لتكون أكثر ديموقرطية وتعبيراً عن تطلعات وآمال الشعوب، كل الشعوب، وليس مجرد أداة بيد حكومات الدول الكبرى التي وظفتها في صراعاتها من أجل الهيمنة والاستحواذ.
مشاركة :