"بابا الهادي" وثيقة بصرية تؤرخ لأيقونة الغناء التونسي

  • 10/2/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تكمن قيمة الفيلم، أي فيلم سواء كان دراميا أو وثائقيا، في أرشفته لمرحلة تاريخية بعينها، وفي أكثر من مستوى، قد يشمل موضة الملابس المتداولة أيامها، علاوة على الخصوصيات المعمارية والعمرانية للبلد المتحدّث عنه، ممّا يضفي إلى استجلاء مبطن للرؤى السياسية أو الاجتماعية وحتى الفنية- الثقافية التي أسّست لتلك المرحلة، بل ويصل الأمر حدّ التأريخ لطريقة العيش، وهو ما يجعل من الفيلم وثيقة بصرية تحتمل أكثر من قراءة متبصّرة لتاريخ حقبة ما والفاعلين فيها، الشيء الذي تحقّق مع الفيلم الوثائقي التونسي الجديد “بابا الهادي: الرجل خلف الميكروفون” للمخرجة البريطانية التونسية كلير بلحسين. تونس- عن طريق الراديو، وصلتها أغنية عربية جميلة، فسألت سائق التاكسي التي كانت تستقلها إن كان يعرف اسم المطرب، فأتتها الإجابة صادمة، إنه جدها لأبيها، أحد أشهر المطربين في تونس الذي كان يُلقب بـ”فرانك سيناترا” الموسيقى التونسية. حينها فقط عرفت السائلة، كلير بلحسين، وهي في الثلاثينات من عمرها، أن جدها الهادي الجويني كان واحدا من كبار المطربين التونسيين، وهو الذي اشتهر بتأليف وتلحين وغناء العديد من الأغنيات الشهيرة كـ”لاموني اللي غاروا مني” و”سمرة يا سمرا” و”تحت الياسمينة في الليل” وغيرها من الأغاني التي طبعت مسيرة فنان تونسي استثنائي، ألّف ما يزيد عن ألف أغنية و56 أوبريت ومئة أغنية وطنية، امتزجت بين الطابع المحلي التونسي والأندلسي. لم يكن الهادي الجويني (1909-1990) فنانا عاديا، فقد عكس بموسيقاه مراحل تطوّر الفن التونسي على مدى عقود من الزمن، وهو الذي تميز بكاريزما فنية جعلت منه أحد أهم الفنانين التونسيين، بل وواحدا من أعمدتها الفنية على مستوى الإنتاج والحفلات والمبيعات، إنه أيقونة جيل الأربعينات والخمسينات الذي تغنت تونس وجل مطربيها بما أنتجه “بابا الهادي”، كما يحلو لمُجايليه مناداته، على مدار 60 عاما من الغناء. جوانب عائلية خفية كلير بلحسين الحفيدة من الأب للهادي بلحسين، وهو الاسم الحقيقي للعائلة قبل أن يختار الفنان التونسي لقب شهرته بنفسه، اشتغلت على امتداد 10 سنوات كاملة على فيلمها الذي جاء في 86 دقيقة ليحكي عن فنان عرف بابتسامته اللطيفة التي كان يوزّعها بين جماهيره العريضة، والتي عرفت الهادي الجويني الفنان أكثر منه الإنسان. لكن كلير قدّمت في “بابا الهادي” الرجل الذي يقف وراء الميكروفون، من خلال صوتها الخارجي Voix off الذي يستعرض جوانب خفية من حياة الهادي الجويني الإنسان والفنان، مستعينة في ذلك بلقطات وحوارات من التلفزيون التونسي، والكثير من المشاهد الأرشيفية العائلية المتنوعة للجد والجدة والأبناء والحفيدة ذاتها في البيت والمصيف والرحلات، علاوة على لقطات من الشارع التونسي في تلك الحقبة، وأخرى أرشيفية لآراء الشارع التونسي حول موسيقى وغناء الجويني، وأخيرا لقطات حديثة لآرائهم وقت تصوير الفيلم. والأهم في كل ما سبق ما يكشفه الفيلم من جوانب عائلية خفية عن الفنان الذي تزوجّ وداد التي هي في الأصل “نينات” الفنانة ذات الأصول اليهودية، التي ارتبطت به فنيا ثم عاطفيا، رغم أنه يكبرها بما يزيد عن العشرين عاما. الهادي الجويني ألّف ما يزيد عن ألف أغنية و56 أوبريت ومئة أغنية وطنية، امتزجت بين الطابع التونسي والأندلسيالهادي الجويني ألّف ما يزيد عن ألف أغنية و56 أوبريت ومئة أغنية وطنية، امتزجت بين الطابع التونسي والأندلسي ووداد تميزت بجمالها ورقتها وصوتها القوي، إلاّ أن الهادي الجويني رفض أن تكون زوجته فنانة رغم تفتحه، فخبّأها عن الإعلام والجمهور، حتى أن المخرج الفرنسي أندري زوبدا، مخرج فيلم “الباب السابع” وهو عمل فرنسي مغربي أنتج في العام 1946، لحّن موسيقاه التصويرية ومثّل فيه الهادي الجويني، أصرّ على أن تقوم وداد بأداء دور البطولة فيه لشدة إعجابه بها. ومع ذلك لم يتقبل “بابا الهادي” الغيور على زوجته أن تمثّل في الفيلم، لتكشف اللقطات اللاحقة ندم الجدة على ذلك، حيث أصبحت سجينة زوجها وأولادها، وهي التي ضحّت بنفسها وحياتها من أجله وأجل أبنائها. كل هذه المعلومات وغيرها أتت طبعا على لسان الأبناء الذين تحدّثوا أيضا عن خصوصية العلاقة بين والديهما، وعن التفاف النساء الكثيرات حول الأب، وعن المعارك الزوجية والشجار الذي نشب بينهما بسبب ذلك، وعن تفكير الزوجة مرتين في الطلاق وأن تلحق بعائلتها في إسرائيل، وعن ضريبة الحياة مع مطرب مشهور وغيور أيضا. كما يكشف الفيلم أيضا عن الصراع الذي نشب بين الأبناء إثر رحيل الأب، خاصة مع تسليم زوجة الراحل لأرشيفه الموسيقي إلى ابنه نوفل من أجل العمل عليه ونشره، وهو ما حصل حيث أصدر له كتاب “الهادي الجويني: أثر العملاق”، الأمر الذي لم يرق للابن الأكبر فريد ليقاطع أخاه طيلة 15 عاما، ليمثّل فيلم الحفيدة كلير مرحلة جديدة في حياة أسرة تشتتت لسنوات وتصالحت أثناء التصوير. فيلم الذاكرة والذكريات “بابا الهادي: الرجل خلف الميكروفون”، هو فيلم الذاكرة والذكريات، ذكريات عائلية لأب عشق فنّه حدّ العظام، وحرّمه على أبنائه، خاصة بناته، كما تقول ابنته سامية في إحدى شهاداتها “كنت أخشى أن أغني حتى في الحمّام، خوفا من أن يسمع والدي ذلك”. والفيلم أيضا ذاكرة وطن، حيث أعاد لذاكرة المشاهدين، تونس قبل الاستقلال ومرحلة الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى تونس الستينات والسبعينات والثمانينات، هو فيلم يشير إلى شعب بأكمله وليس لعائلته فقط. كما أنه يخفي بشكل شاعري مبطن سيرة ومسيرة مخرجة ولدت ونشأت في بريطانيا، وهي التي تحمل جنسية مزدوجة بريطانية تونسية، تروي سيرة فنان تونسي وجدة يهودية، وما بينهما من تباين في الديانة والهوية، لكأنها تسرد ثقافتين واحدة عربية وأخرى غربية، جسّدهما الهادي الجويني الأب والزوج بامتياز، وهو الذي كان منفتحا على الثقافة الغربية بملابسه العصرية وتشبّعه بالفلامنغو والجاز من ناحية، والموغل في عروبته المُحافظة من ناحية أخرى، وهو الذي كان رافضا لاقتحام عقيلته ومن ثمة بناته المجال الفني، ولذلك ربما جاء فنه لا يشبه أحدا سواه، فن الانفتاح والأصالة، ولذلك أيضا أتى فيلم “بابا الهادي: الرجل خلف الميكروفون” عنوانا ثانيا لحوار الهويات والثقافات. ورغم أهمية الفيلم كوثيقة تاريخية تؤرّخ لفنان تونسي استثنائي ترنّم كل العالم بموسيقاه، إلاّ أن الفيلم لم يحصل على أي دعم تونسي، الأمر الذي جعل ألفة التراس منتجة العمل وصاحبة مؤسسة “رامبورغ”، تتبنى مغامرة إنتاجه، وهو التوثيقي غير الربحي، الذي كان من الأجدر أن تنتجه وزارة الثقافة التونسية لقيمته المعنوية والتاريخية، وهو الذي يؤرّخ لمسيرة فنان أثرى تراث تونس اللامادي بالمئات من الأغاني الوطنية في مرحلة بناء الدولة الوطنية التي همّشتها اليوم النزاعات الأيديولوجية.

مشاركة :