لقد أضاعت الحكاية كثيراً من التفاصيل، لكني لا أريد أن أخترع ما لست أعرفه خورخي لويس بورخِس I حبل الغسيل كان من الصعب التفريق بين الرجلين الصاعدين في شعاب الجبل في مثل هذه الساعة، ولم يكن الأمر ضرورياً على أي حال من وجهة نظر الرجل المنتظر وصولهما في البيت، بسبّابة متأهبة على الزناد. كانا قد توقفا عند خيمة منصوبة في نهاية المنحدر قبل بدء الصعود، حين بدأ الليل يدلهمّ قبل شروق القمر، خيمة ظهرت أمامهما فجأة من جوف الظلام من حيث لا يدريان، إذ لم يكن من المفروض أن تكون هناك، فعرب المواسي كان قد شرّدهم عبر الحدود في العام المنصرم هادم اللذات ومفرّق الجماعات من بني إسرائيل، فكأن صاحب الخيمة كان متربعاً خارج التاريخ، قرب نار باهتة استطاعت بالكاد أن تضيء صبياً كان يتلقى اللوم في العتمة على تقصير فاتهما سببه حين انتصبا أمام الرجل وطرحا عليه تحية المساء كما اعتقدا يجب أن تُطرح. توقف الرجل للحظة عن نكث الموقد من دون أن يفاجئه ظهورهما المباغت، وردّ السلام باقتضاب من دون أن يتبيّن ملامحهما، مع أنه شعر بأنه يعرفهما. قال الأول إنهما يموتان عطشاً، فأشار الرجل برأسه إشارة مترددة، فسارا في اتجاه نهايتها، وقد لاحظ الأول أن الرجل جالس تحت حبل للغسيل، وأن الثياب المعلقة على الحبل وعلى دخان النار لا يحركها النسيم الآتي من صوب الوادي. الرجل الثاني، السائر في المؤخرة، وصل أولاً وتبيّن القِدرين قبل أن يرتطم بهما. توهجت النار فجأة فرأى كفكيراً معلقاً على حافة القدر. غَـرَف بالكفكير وشرب، وسرعان ما انبثق القيء من فمه حين اكتشف أنه قد شرب مياه الغسيل. سخر منه الأول بصمت، وشرب من القدر الأُخرى ناظراً نحو النار وحبل الغسيل، وتذكّر، تذكارَ الحالم، شيئاً لم يخطر على باله من زمان. II دفتر التاريخ الذي ضاع تأخرنا، قال أبي. وكان النهار قد انسحب من الدكان مرة واحدة، كما تنسحب القدم العارية من الحذاء، وغلّفت عتمة خفيفة روائح النعل والجلد والأصباغ، وكومة الأحذية القديمة التي أتمّ تصليحها ذلك اليوم. نزع «حُورة» الشغل كما كان يسميها، وعلّقها على مسمار قرب برميل الحنفية الصغير، المعلق في الزاوية فوق الدلو، واستدار ليغسل يديه، فلسعت يديَّ برودة المياه حتى قبل أن يفتح الحنفية. ثم أقفل الدكان ووضع المفتاح الكبير في جيب كَـبّوته، وفتح يده وأغلقها على يدي وأدخل كلتيهما في جيبه حيث المفتاح البارد، ثم أخرجهما ريثما ينقل المفتاح إلى الجيب الآخر. سنشتري في طريقنا بعض البرتقال للعشاء، قال حين استكانت يدي إلى دفء يده، تحت زخزخة المطر. وحين وصلنا إلى الزقاق كانت أم جورج، التي تربطنا بها قرابة بعيدة، تلحّ على أبي حبيب، صاحب الدكان، أن يزن لها الكيلوغرامات الخمسة من البرتقال ليس دفعة واحدة، بل الكيلو بعد الآخر. فأطاعها ممتعضاً، وسألها أبي وهو ينشّف بيده شعري المبلل ويمسحها بكـبّوته، لماذا تصرّ على ذلك، فصمتت وواصلت مراقبة وزن البرتقال. ثم خرجت، فتبادل أبو حبيب النظرات مع أبي وهو يزن له البرتقال. ثم وضع أبي برتقالنا في شبكة قطنية أخرجها من جيبه، فوقع المفتاح على الأرض، فانحنيت لالتقاطه. وحين خرجنا كانت أم جورج ما زالت واقفة أمام الدكان، ومن دون أن تلتفت نحونا قالت كأنها تحدث نفسها، إن البائع الكريم يُرجّح عادة كـفة البرتقال، فتضاف بهذه الطريقة برتقالة واحدة إلى كل وزنة. ثم اختفت في العتمة، وقد اشتد المطر، وسرت مهرولاً وراء أبي نحو البيت، وقد نسي أن يخبىء يدي في جيبه، يدي التي كانت لا تزال قابضة على مفتاح الدكان. جلسنا حول طاولة الأكل الواطئة التي كان فيما مضى قد صنعها لنا النجار، زوج أم جورج، وقد توسطها القنديل الذي أشعلته أمي للتو، بضوئه الخفيض المكفهر، لئلا يستنفد كثيراً من الكاز، محاذرين أن تبقى أقدامنا فوق الطراحة، وألاّ تمسّ جليد المصطبة، وملتقطين ما تستطيعه ظهورنا المرتجفة من دفء الجمرات في «الكانون»، ذلك الوجاق الضائع في عتمة البيت، ومتفادين أسياخ الزمهرير التي تخترق أجسادنا من حيث لا ندري، وقد تجمدت أكفّنا الزرقاء حول جمر البرتقالة داخل نصف الرغيف، عشاء تلك الليلة. باكراً في صباح الغد، اليوم الأخير من عطلة الشتاء، ألحّ عليّ أخي الذي يكبرني بأربعة صفوف، أن أرافقه إلى بيت حبيب، ابن صفّه، لاستعادة دفتر التاريخ الذي كان قد أعاره إياه لينسخ ما فاته من تاريخ العرب في فترة مرضه. كان المطر قد توقف، وكنا نرى أنفاسنا المتجمدة تهرول أمامنا، فنسارع للحاق بها، واضعَين أكفّنا تحت الإبطين التماساً للدفء، ومحاولَين ألاّ ندوس أكثر ممّا يجب على زجاج بُرك الوحل المتجمدة. مررنا في الزقاق أمام دكان أبي حبيب ورأيناه يفتح باب الدكان بحركات سريعة لتفادي صقيع الحديد، فسأله أخي إذا كان حبيب موجوداً في البيت. نظر إلينا الرجل مستغرباً، مهمهماً شيئاً لم نفهمه، وحجب كلماتِه ضبابُ أنفاسه، فواصلنا المسير، وقد سبقني أخي بخطوات غدت أكثر تصميماً بعد همهمة الأب. كان حبيب قد تيتّم من أمه التي ماتت حين ولدت أختَه الصغرى التي تكبرني بصفّين، في عام النكبة، وكان بيتهم في الحارة الفوقا التي قلّما كنا نذهب إليها. حين طرق أخي الباب المشرف على الطريق من ارتفاع سبع أو ثماني درجات تآكل ما كان ذات يوم يجمع حجارتها، لم يُجبنا أحد. فاستدرنا وهممنا بأن نغادر، ثم عدلنا عن الفكرة. وأعاد أخي الطرْق، وسارع في إرجاع يده إلى دفء إبطه، ثم تراجعنا إلى الدرجة الأولى، نخبط أقدامنا تباعاً على حجارتها المحدودبة لنَفْض دبيب البرد. وبعد لحظات طويلة فتح حبيب الباب فاركاً عينيه، ثمّ تنحى جانباً داعياً إيانا للدخول بكلمات مكتوبة بالصقيع تدحرجت على المصطبة. كانت مصطبة الغرفة على مستوى أعيننا، فرأينا وراء قدميه العاريتين فراشاً عارياً طُرح على المصطبة العارية وقد انحسر اللحاف عن الجزء الذي كان قد احتلّه نومه. وحين أدرك ترددنا، استدار إلى الوراء وانحنى وأمسك بطرف اللحاف وصرخ بأخته أن تستيقظ نافضاً اللحاف عنها. رفعت الأخت رأسها، مفغورة الفم، محاولة أن تشد ثوبها المحسور إلى أسفل، لكن نظراتنا كانت قد استباحت عريَها وكلسونَها الممزق. فأشحنا بوجهينا كما علمونا. وبقفزة واحدة اختفت الأخت عن أنظارنا في عتمة الغرفة، فقال أخي بصوت عال: لازم تْرَجّعلي دفتر التاريخ. فتقدم حبيب ثانية من الباب وقال إن الدفتر ضاع. فتساءل أخي مبتسماً بصوت فيه حنان مفاجىء من عدم التصديق: شو يعني ضاع؟ فقال حبيب: ضاع. وين ضاع؟ قال أخي، وأجال نظره في أنحاء الغرفة الفارغة. فقال حبيب: ضاع. ودوّرت عليه منيح؟ سأله أخي. فقلت لأخي بنفاد صبر: بيقلّك ضاع! فلطمني على وجهي بيده التي كانت تحت إبطه، ومع ذلك كانت باردة. وحين أدرت وجهي الملتهب مدّ حبيب يده نحو أخي بشيء أخرجه من جيبه، ووضعه في اليد التي صفعتني، وقال: خود هاى خلّيها معك ورَجّعلي يّاها لمّن ألاقي الدفتر. فضم أخي ذلك الشيء بين أصابعه، ثم استدار بغضب وأمرني بأن أتبعه. وبعد أن ابتعدنا عن بيت حبيب، وقف فجأة ثم أرجع يده إلى الخلف على مداها وباعد ما بين قدميه وألقى ما كان في قبضته بعيداً في عرض الطريق أمامنا، وسار بخطوات غاضبة وقد فرد يديه على جانبيه، ثم مسح اليد التي صفعتني وألقت بذلك الشيء بعيداً على فخذه من الخلف، كأنه يتخلص من ذكرى اللطمة وذلك الشيء. وركضت وراءه صائحاً أنني سأشكوه في البيت. فغمغم بعض الكلمات وواصل السير، وتوقفت أنا ونظرت إلى الأرض وكانت هناك، وقد غرق طرفها قليلاً في نقعة المطر، علبةٌ صغيرة من الصفيح الرمادي، فانحنيت والتقطتها، ومسحت بَـلَـلَها على صدري، وحين نظرت إليها أدركت للتو أنها أجمل ما رأيته في حياتي. III الرحلة الأخيرة لِـصَمْت البيت أصوات حين يستلقي على ظهره في الفراش ويغمر جسمه حتى ما فوق الأذنين بلحاف الريش الذي ما زالت بقبقة الإوز تتراجع أصداؤها في هشاشة حناياه حين يُحكم إلصاق اللحاف بأذنيه ويعيد يديه إلى صدره محاذراً ألاّ ترتفع أمواج الريش ويتسلل تيار الهواء البارد إلى قوقعة الدفء التي تحاول اليدان ألاّ تنتهكها بتحركاتها إذ تستعيد ذكرى يدَي أبيه الـمسجّى اللتين حاول أن يشبك أصابعهما فأخفق لأن الجثة تـتـيـبس بعد الموت وتفقد ليونة الحركة لكنها تستعيدها حين تأنس له فتستجيب اليدان ليديه وتشتبك الأصابع في حوار الصمت الأخير الذي يفصل بين حزن وحزن كما يفصله الحزن الآن تحت اللحاف عن أصوات البيت التي تأتيه عبر الصمت كهنين المياه في طريقها إلى الجلاّية والزفير المكتوم لتلظي اللـهيب تحت مراوح فرن التدفئة وأطيط الخشب في أرضية البيت الذي ما زالت أساساته تلتمس الاستقرار في عتمة أرض الغربة والمطر الذي يرتطم خفيفاً بزجاج النافذة التي فوقه وتستسلم قطراته لصمت السيلان مستعيدة مطراً آخر يغرق في صمت آخر يرشح إليه الآن مع دوائر الضوء المنمنمة الثلاث التي ترفرف على اللحاف كأجنحة العصافير التي داهمتها حيّة الحائط الرقطاء بين أغصان المشمشة التي كانت تظلل البئر في ذلك البيت المفقود فتسمرت في الهواء لا تريم في طيرانها وتحجرت شقشقتها للحظات في حناجرها المخنوقة ريثما تختار الحيّة من بينها هدفاً لانقضاضها ثم تدفقت بفيض فجائي بعد أن انشلّت الضحية بين الأنياب ففكت الشقشقة الأجنحة من رعب المواجهة وارتعشت الدوائر المنمنمة الثلاث على طيّة اللحاف أمام عينيه مملوءة برفرفة الأوراق التي تعترض أشعة الشمس التي تخترق الثقوب الصغيرة الثلاثة التي يمر بها أحد الخيوط الممسكة برقاقات ستارة الأباجور البيضاء مكونة ــ على ما اكتشف ابن الهيثم قبل ألف عام ــ ثلاث شموس بحجم عين الديك على اللحاف الذي يحيط به الآن من كل جانب إحاطة الريح بمالك الحزين الذي سيسأله الثعلب للتو أين سيخبىء في تلك الحالة رأسه قبل أن ينقضّ عليه ويدق عنقه الذي أخذت حرارة أنفاسه تسري إليه الآن على هوامش النوم فتوحي إلى أذنيه بأن للدفء صوتاً كدفء الموقد الذي يلتفون حوله للاصطلاء شتاء ويتعالى منه نشيشُ الحطب الذي تلتهم النار بَـلَـله فيبعث استغاثات شرر فجائية تخاف منها وجوه الصغار المتحلقين حول الموقد فينتترون تلقائياً إلى الوراء خشية أن تصيبهم فيبتسم الكبار وتختلط أنفاسهم بالهبّال المتصاعد من الحطب المبلول وفناجين الشاي التي يرتشفون منها بشفاه مزمومة وحواجب مرفوعة لتلطيف حرارتها ثم يعودون إلى صمت الاصطلاء الذي يرسم حدودَه هسيسُ النار إذ أخذ يتسرب إلى تهويماته يرشقها بصور تُنطنط هشاشتها على شاشة الأحلام من داخل ريش اللحاف الذي استكان الآن إلى أصوات البيت كما استكان الفُـلك المصنوع من خشب الصندل في رحلة السندباد الأخيرة إلى نومه وقد جرى به التيار إلى جوف الجبل IV بِسّة البَـصّة عمتي ماري: «بصيف الثماني وأربعين، سنة الاحتلال، إجِت إم ناصر عالبلد من البصّة تزور بنتها نجمة، سِلِـفْتي إم نعيم، اللّي تغرّبت لفسوطة، وكانت إم ناصر جايبة بسّتها معها. كانت وين ما راحت ــ البسّة لاحقيتها عالدّعسة، إجرها على إجرها. وكانت كثير تحبّ بنتها، وأبصر إذا قلبها كان قايلّها شو بدّو يصير. يا حسرتي. الحرب كان صارت مولّعة، ولـمّا تْرحّلوا من البصة بْـتَـشارين بِـقِـت إم ناصر علقانة عند بنتها بالبلد، وراح وقت كثير قبل ما سِمْعِت عن ولادها وبناتها بالمخيمات بلبنان. لا خبر ولا عِـلِـم. عَصّبت راسها بهالعصبة السودا فوق المنديل الأسود، وكانت تقعد طول نهار على درجات بيت إم نعيم، والبسّة قاعدة حدّها، يتحسّروا ويِطّلعوا هيك للغرب ناحية البصّة. تفضّلي يا جارتنا يا إم ناصر، إشربي قهوة عنّا، تْـقُـلّـك لمّا تِرجَع البصّة. قومي يا إم ناصر عالبيت بَرّدتِ الدنيا، تقلّك شو أفرق البرد ــ بيتنا بعيد بالبصّة. يا حسرتي، مرة كان عمّك مخايل مارق، ولا يُمْرُق اليوم، قالتلو شو شايف كَجارنا أبو خليل، وينتا بدّهن يرجعوا اللاجئين؟ وقّف هيك وِتطـلّع فيها وقلّها: يا إم ناصر تطلّعي عليّ منيح (هو كان صار منيح بالعُمِر) إذا أنا بَرْجَع شَبّ، اللاجئين بِـرجعوا. واللـه يا عمتي لَـفّت هالمنديل هيك على ثِـمها، وشدّت عَصبتها وما عادت تحكي معو، لا مْنيحة ولا عاطلة، ليوم ما مات. وفوق الكل حتّى ما راحتش على جنازتو. يا حسرتي، هياهن الاثنين إلك طولة العمر، والبصّة ترحّلَتْ واتهَدّمت، ومن هون تايرجعوا اللاجئين حيا ورحمة». قطّتان من نسل تلك البسّة كانتا ترافقان نجمة، أم نعيم، كظلّ مزدوج، بعد ذلك بأعوام طويلة. تتمهلان حين تتمهل، وتلتفتان حيث تلتفت، وتقعيان على جانبيها حين تأتي لشرب القهوة عند أُختي المتزوجة من ابن العمّة ماري، جيران أم نعيم. وحين تقف على سطح «السيح»، وهو سطح البئر أمام درجات بيتها القديم، وتنظر إلى الغرب، تنظر القطّتان إلى الغرب وتأخذان بالمواء على مداه. V مغارة العجّانة حدِّثني عمّا كنت تفعله مع أصحابك وأنت في سني، تقول له أحياناً ابنته عليا قبل أن تغرق في النوم. فَتُـفَرفر الفراخ للحظة أمامه، تاركة بقعاً صغيرة من الدماء فوق مخدّتها. وبعد أن تنتظم أنفاسها، يقف أحياناً أمام الشباك ويزيح الستارة فيرى جداراً عبر الشارع وقد اتكأ عليه سلم خشبي، فيخرج من بيته ويهمّ بقطع الشارع نحو ذلك العالم الذي تلاشى، لكنه ما زال ههنا، على مبعدة أمتار من النافذة. ثم يتوقف في منتصف الطريق ناظراً إلى الخلاء الذي انفغر فجأة أمام ناظريه، والذي لا يستطيع مصباح الشارع أن يضيء منه سوى أمتار قليلة، فلا يرى سطحاً ولا سُلّماً. كنّا نسطو على الأعشاش في الصباح الباكر، قبل أن تغرق طيور الليل في نومها النهاري، ونجمع في سلة الصيد الفراخ المرتعدة وجلاً، والتي لم تكن قد أدركت بعد أن لها أجنحة. ثم نرجع إلى البيت ونتهيأ للمجزرة في ساحة الدار. نأخذ الزغلول المرتعد، ونضعه في ثقب في جدار الكلّين، ونتبادل «النقّيفة»، مصوبين الحجر المدور الصغير نحو الفرخ المصعوق، فإذا أخطأنا ــ انتقلت النقّيفة إلى الآتي بالدور، وإذا أصبنا أُعطينا فرصة أُخرى للقتل. كانت ستّي عليا تتوقف عمّا تكون مشغولة به على السطح، وتنظر مشدوهة إلى الذي يجري في ساحة الدار، فتخبط بكفّيها على صدغيها وتـتحلّفنا بإبلاغ الوالد حين يعود من الدكان، غير مصدقة أن أطفالاً في هذا السن يمكنهم أن يقترفوا هذه الفظائع. وكنا نضحك منها، ويزيدنا استياؤها إقداماً على ما نفعل. لاحظنا ذات يوم أن سعيد النجار، ابن الجيران، والذي كان يكبرني بصفّين، كان واقفاً طوال الوقت يراقبنا من وراء زاوية البيت القريبة من الشارع، مشدوه العينين مفغور الفم، لا يريم. فنشجعه على الانضمام إلى ما كنا نقترفه، فينظر إلينا بعينيه الجاحظتين ولا ينبس، ثم يستدير مرتعداً ويركض في اتجاه بيتهم في أسفل المنحدر. وكانت قد تعذّرت عليه رؤية باب المغارة من السطح، مغارة دار النجار. فحتى لو اقترب من الحُرحاج، كما كانوا يسمّون حافة السطح، زاحفاً على ركبتيه اللتين تركت فيهما نتوءات الطين خدوشاً وأخاديد وفجوات لن تمّحي بسرعة، ومطّ عنقه في اتجاه دار النجار إلى أقصى ما يستطيع، فإن المغارة ستبقى حيث هي، مختبئة في أسفل السنسلة الشاهقة التي تفصل الدوّارة التي خلف البيت عن هوّة أرض دار النجار. وكان الحُرحاج يبدأ في موضع لم يستطع أحد أن يعيّنه بدقة، تلك النقطة التي ينتهي فيها استواء طين السطح، ويبدأ الانحدار الدائري للحُرحاج نحو أعلى مداميك الحائط الحجري. وكان التحذير «يا ولد، إبعد عن الحُرحاج!» يقع داخل ذلك الغموض الذي يكتنف علاقة الأمكنة بأسمائها، شاملاً السطح بأكمله، بحيث يستحيل التمييز بين السطح وبين حُرحاجه، إذ يتحول السطح، في النهاية، وهو المساحة المحظورة على أي حال، حُرحاجاً مضاعف الحظر، ويصبح السلم الخشبي المتكىء على الجدار درجاً يؤدي إلى عالم عُلوي محرّم دخوله. ولم يكن يخطر على بال أحد من الكبار أن يأخذ السلّم من مكانه ويلقي به بعيداً، فيضع بذلك حداً لغواية السطح. فالسلّم كان هناك لاستعمال الكبار فقط، وخصوصاً الجدّة التي كانت تقضي ساعات طويلة من كل يوم على ذلك السطح، ترقّع أجزاءه الرثّة بالطين وتسوّيها بالـمِدحلة، وتواكب تتابع الفصول بما يمليه عليها الموسم. فهناك تهوئة الفراش والأغطية بعيداً عن أعين الجيران، حين تظهر الشمس بين مِزَق الغيوم في نهاية الشتاء الطويل؛ وهناك تهوئة ما تبقّى من حبوب السنة الماضية وحمايتها من النمل الشره ومن العصافير الجائعة؛ وهناك تشريح التين وتسطيحه ليجفّ ويمكن تخزينه في قفير القُطّين الذي ستخفف حلاوة الصيف المخزونة فيه من مرارة ليالي الشتاء المقبل؛ وهناك نَشْر القمح المسلوق في نهاية الحصاد ليُرسَل جافاً إلى المطحنة؛ وهناك أشغال وأعمال خفية لا يمكن تنفيذها إلاّ فوق ذلك السطح العلني، كأن البيت الحقيقي هو ذلك الفضاء الذي ينفلت زمامه فوق السطح وليس ذلك الفضاء الأسير بين الجدران الأربعة تحته. وهو لم يكن يريد أن يرى باب المغارة على أي حال، بل كان ينتابه الرعب حين يتخيل أنها قد تظهر أمامه فجأة من فوق السنسلة إذا مطّ عنقه بما فيه الكفاية. والمغارة لم تكن في الأصل مغارة، وإنما كانت تجويفاً طبيعياً في بطن التلة، تتنبّع فيها المياه في الشتاء، من دون أن يعلم أحد من أين تأتي تلك المياه، وهي تكفي حاجات دار النجار على مدار العام، وحاجات جملهم الأهوج، وحاجات بقراتهم وعنزاتهم، وحتى حاجات الجيران حين تشحّ المياه في الآبار. وذات يوم اختفت مرتا، أخت سعيد الكبرى. أتى إلينا ليسأل عنها، وسأل الجيران، لكن أحداً لم يرَها في ذلك اليوم. فذهبت الأخت الثانية لاستدعاء خطيبها للمساعدة في البحث عنها، وكان ماهراً في قصّ الأثر، وكانت عائلته تسكن في بيت في الحارة الشمالية مقابل بيت أم نعيم، في أول النزلة التي تنتهي عند المقبرة، وكانت نظرات أم ناصر تمر فوق ذلك البيت في طريقها إلى البصّة. «شو السيرة، انشاللـه خير؟» سألت أم ناصر محاولة رفع صوتها أكثر ممّا يحتمل، فقالت الأخت المهرولة باختصار، كي لا تطيل الحديث، إن أختها مرتا اختفت. فتنهدت أم ناصر كأن أحداً ذكّرها بما لا يحتاج إلى تذكير، ودعت اللـه أن تنتهي الأمور بالتوفيق. وذهب الخطيب للمساعدة في البحث عن المفقودة. وبعد أن قلبوا القرية وبيوتها رأساً على عقب، وسألوا الأقارب والرائح والغادي إذا كانوا قد شاهدوا مرتا، وبعد أن نشّف الوجل ريقهم مع اقتراب الغروب، عثر خطيب الأخت على فردة يتيمة من حذاء مرتا، مقلوبة قرب خرزة المغارة. فلم يقل شيئاً، وأتى من الإصطبل بالخطافة الحديدية، التي كانت تُستعمل لانتشال السطل الغريق أو لتعليق الذبيحة، وربطها بحبل طويل، ثم أخذ يحرك الخطافة جيئة وذهاباً في جوف المغارة، حتى شعر بأنها نشبت في شيء ثقيل الوزن، فبدأ بجر الحبل المشدود. وجاءت الأم منعوفة الشعر مبحوحة الصوت تثنيه عمّا كان يفعله، إذ كيف يعقل أن تكون مرتا قد سقطت في المغارة. لكن مرتا كانت قد سقطت في المغارة. بعد ذلك الزمان بأعوام طويلة تزوجت إحدى حفيدات أم ناصر ــ وكانت هي أيضاً تدعى مرتا ــ بابن تلك الأخت، أي ابن الرجل الذي انتشل جثمان مرتا من المغارة. وأخذت مرتا تعمل في مخبز سعيد النجار، وكان زوجها عاطلاً عن العمل، يعاملها بالعنف كما أُشيع لأنها، كما كان يدّعي، لا تنتبه لأولادها. وجاءت مرتا ذات يوم إلى المخبز كعادتها في الرابعة صباحاً، وتختلف الروايات عمّا حدث لها بعد ذلك. سعيد قال للشرطة فيما بعد أنه استيقظ من نومه في الخامسة صباحاً على صياح العاملة الأُخرى في المخبز، فهبط الدرج المؤدي إلى المخبز، وسأل العاملة «شو صار؟» فأشارت مولولة إلى العجّانة الضخمة التي كانت قد أوقفَتها للتو. فارتقى سعيد السلّم القصير إلى فوهة العجّانة، وحين وجّه الضوء المتدلي من السقف في نهاية سلك أبيض مجدول كالحبل، رأى في الضوء الكابي أشلاء بشرية غريقة في الطحين المعجون بالدم. وحين هبط السلّم كي يستدعي الشرطة كاد يسقط حين ارتطم بفردة حذاء مرتا المقلوبة. VI الشاهدان الشاهد يأتي بعد الخرزة الحادية عشرة في المسبحة؛ لكنهما شاهدان فقط بين الخرزات الثلاث والثلاثين، فشرّابة المسبحة هي الشاهد الأكبر. وأفخر المسابح ما كان من الكهرمان، أو «الكاربا» كما كانوا يسمّونها. ومن فضائل الكهرمان ــ فضلاً عن غواية النار الكدماء المكتومة في لونه، وصفاء النقرة حين، مـترفقة، تدفع الإبهام بالخرزة فوق السبابة فتهوي فوق سابقتها ــ أنك حين تفرك خرزة ما بسرعة، جيئة وذهاباً فوق القماش الصوف، يتطاير الشرر منها بعد حين، فتستطيع هذه الخرزة إذا قرّبتها من نَسيلة هشة من قشّ الحصيرة، أن تجتذب القشة إليها بقوة المغنطيس. مشدوهاً رأى هذا الأمر بأم عينيه، حين قام به طنوس الضرير، صاحب المسبحة، أمام المتحلقين حوله جلوساً قرب موقدة الحطب في زاوية المطبخ، حيث كانت العائلة تقضي ليالي الشتاء. «شوفوا الشرار كيف طاير من الخرزة!» قال طنوس الضرير وهو يحكها فوق فخذ سرواله الصوف، فنظروا ورأوا وآمنوا. أخوه صاحب العلبة الصفيح سيقول بعد سنين في سيدني، قبل أن تتطاير دماؤه من شريانه الأورطي، بأن الأمور التبست أكيداً على أعين الحاضرين بسبب الشرر الذي كان يتطاير من حين إلى آخر من الحطب المبلول الذي كان يفرقع اندهاشاً حين تُـلحوسه النار في عتمة المطبخ. ربما كان كذلك. لكن النار لم يكن لها شواهد تفصل بين خرزاتها في منظومة اللـهب، ولم يكن لفرقعات حبّاتها حين يتساقط بعضها فوق بعض ذلك الصفاء الذي للكهرمان. أمّا المسبحة فلها شاهدان على الشرر الذي يسبق المغنطيس. أو هكذا يتوهمان حين تجتذب الحكاية حصيرة المطبخ من تحت الـمصطـلين. VII تاريخ البرتقال الحزين قال أبي الذي عاد للتو من الدكان، وهو ينشف بيديه رأسه المبلل، إن أم جورج التي تربطنا بها قرابة بعيدة، ألحّت على أبي حبيب، صاحب الدكان، أن يزن لها الكيلوغرامات الخمسة من البرتقال ليس دفعة واحدة، بل الكيلو بعد الآخر. فأطاعها أبو حبيب ممتعضاً، وسألها أبي بفضوله المعهود، وهو يُدخل برتقالاته في السلة، لماذا تصرّ على ذلك، فصمتت ولم تردّ وواصلت مراقبة وزن البرتقال. وكان أبي يتحدث إلى صديق له التقاه أمام الدكان حين مرّت بهما أم جورج الخارجة من الدكان مسرعة وألقت عليهما تحية المساء، ثم ترددت خطواتها تحت زخزخة المطر، فتريثت، ومن دون أن تلتفت نحو أبي قالت كأنها تحدث نفسَها إن البائع الكريم يرجّح عادةً كفّة البرتقال، فتُضاف بهذه الطريقة برتقالة واحدة إلى كل وزنة. كنا ملتفين حول طاولة الأكل الواطئة التي صنعها لنا النجار، زوج أم جورج، وقد توسطها قنديل الكاز الذي أشعلته أمي للتو، بضوئه المكفهر، محاذرين أن تبقى أقدامنا فوق الطرّاحة وألاّ تمسّ جليد المصطبة، ومحاولين أن نلتقط ما تستطيعه ظهورنا المرتجفة من دفء الجمرات في «الكانون» الضائع في فضاء البيت، وأن نتفادى أسياخ الهواء التي تخترق البيت من حيث لا ندري، وقد تجمدت أكفّنا الزرقاء حول جمر البرتقالة داخل نصف الرغيف، عشاء تلك الليلة. باكراً في صباح الغد، وكان اليوم الأخير في عطلة الشتاء، رافقت أخي إلى بيت حبيب لاستعادة دفتر التاريخ الذي كان قد أعاره إياه لينسخ ما فاته في فترة مرضه. كنا نرى أنفاسنا المتجمدة تهرول أمامنا، فنسارع للحاق بها، واضعَين أكفّنا تحت الإبطين التماساً للدفء، ومحاولَين ألاّ ندوس أكثر ممّا يجب على زجاج بُرك الوحل. مررنا في الزقاق أمام دكان أبي حبيب ورأيناه يفتح باب الدكان، فسأله أخي إذا كان حبيب موجوداً في البيت. نظر إلينا الرجل مهمهماً شيئاً ما لم نفهمه، وحجب كلماتِه ضبابُ أنفاسه، فواصلنا المسير، وقد سبقني أخي بخطوات غدت أكثر تصميماً بعد همهمة الأب. حين طرق أخي الباب المشرف على الطريق من ارتفاع بضع درجات، لم يُجبنا أحد. فاستدرنا وهممنا بأن نغادر، ثم عدلنا عن الفكرة وأعاد أخي الطرق، وسارع في إرجاع يده إلى دفء إبطه، ثم تراجعنا يأساً إلى الدرجة الأولى، نخبط أقدامنا عليها تباعاً لنفض دبيب البرد. وبعد لحظات طويلة فتح حبيب الباب فاركاً عينيه، ثم تنحى جانباً داعياً إيانا للدخول. كانت مصطبة الغرفة على مستوى أعيننا، فرأينا وراء قدميه العاريتين فراشاً عارياً طُرح على المصطبة العارية وقد انحسر اللحاف عن الجزء الذي كان نومه قد احتله. وحين رأى ترددنا، استدار إلى الوراء وانحنى وأمسك بطرف اللحاف وصرخ بأخته أن تستيقظ نافضاً اللحاف عنها. رفعت رأسها، مفغورة الفم، محاولة أن تشد ثوبها المحسور إلى أسفل، لكن نظراتنا كانت قد استباحت عريَها وكلسونَها الممزق، فأدرنا وجهينا احتشاماً، كما علمونا. * شاعر وروائي فلسطيني، وينشر هذا النص بالاتفاق مع مجلة الدراسات الفلسطينية
مشاركة :