منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام، وحتى الآن، يحكم تفكيرَ التيار الديني السائد إعلامياً عددٌ من الأفكار المحورية التي تصنع في مجموعها نسقاً من التفكير تدور في فلكه أفكار التيار وقيمه وأفعاله. ويدور هذا النسق حول أن هذا التيار هو جماعة الحق التي تعمل لنصرة الإسلام والقادرة على تطبيق شريعته على الواقع المعاصر. أما غيره من اتجاهات إسلامية فإما ضال عن وجهة الحق وإما جاهل أو عاجز العقل عن بلوغها. فهو التيار الأخلص الذي قدم التضحيات تلو التضحيات في سبيل الإسلام. وأصحابه أصحاب الفكر والدعوة الذين تذخر المكتبة الإسلامية بآلاف الكتب في تراثهم الفكري والدعوي، وتنتشر رسائلهم الجامعية ومؤسساتهم الفكرية والدعوية والخدمية والمجتمعية في كل مكان في العالم. إذاً، فهم الأحق بنصرة الإسلام وتطبيقه، وما دام الأمر كذلك فإن تقدمهم إلى قيادة المجتمع وتمكينهم من الحكم والتوجيه يعني التمكين للإسلام نفسه والقدرة على تطبيق شريعته. ولأن العالم الإسلامي يرقد في هزيمة حضارية منذ أكثر من قرنين ولأن الذي يتحكم بالعالم الآن قوى أخرى على رأسها القوى الغربية، فإن إقناع هذه القوى بأن قيادات هذا التيار سيلتزمون بالتوفيق بين قيم الإسلام والقيم الغربية، أو بالشكل الأدق سيلتزمون بتأويل قواعد الإسلام وتكييفها للتوافق مع القيم الغربية، وكذلك بتحقيق مصالح هذه الدول في المنطقة، فإن ذلك سيقنع قيادات تلك الدول بالعمل على دفع قيادات هذا التيار للسيطرة على سلطات البلاد وبذلك يتم التخلص من ضغوط احتقان العالم الإسلامي المهموم بتطبيق الشريعة وتتم إزالته بالاستجابة الخادعة لتلك المطالب على أساس أن ذلك تمّ من خلال سيطرة أشخاص هؤلاء الإسلاميين على السلطة وذلك في وقت تمّ التخلص من الإسلام نفسه من خلال تكييف قواعده مع القيم الغربية. وفي سبيل هذا التمكين من السلطة، تغدو الديموقراطية مطابقة للشورى، والحرية مقدمة على الشريعة، والحق والعدل هما الشريعة (ولسائل أن يسأل: هل هناك معنى محدد في العالم أجمع لتلك الحرية وذاك الحق وذاك العدل الذي يتحدثون عنه) والاقتصاد الإسلامي هو الاقتصاد الحر، والمساواة تامة بين الرجل والمرأة إلى أن يصل الأمر لدى بعض الفروع إلى الموافقة على زواج المسلمة بغير المسلم. ولا ضرر في أن يتم السماح لبعض قواعد هذا التيار بنقد ذلك هنا وهناك لما في هذا من تأكيد مدى سماحته وتمتعه بالحرية الفكرية كما أنه يخدم إيهام الجماهير بأن ما يحدث ليس سوى خداع مرحلي من التيار للقوى الكبرى سيتم نقضه في ما بعد. هكذا، تتم التضحية بالإسلام نفسه وإحلال نجاح بعض رجال التيار في التمكين من السلطة بديلاً منه. وفي إطار الخلافات المتداخلة في النسق بين ما هو إيماني وما هو تبريري وما هو ثابت وما هو متغير، وما هو تجديدي وما هو تلفيقي، حتى تغيب في وعي هؤلاء أنفسهم الحدود الفاصلة في توجهاتهم في ظل هذا النسق بين ما هو ديني وما هو ديني براغماتي، وما هو براغماتي تماماً. ولقد عبرت هنا عن هذه الحالة العقلية لهذا التيار بكلمة نسق وليس كلمة منظومة لأن الكلمة الأخيرة توحي بوجود شيء من المحاور والركائز والتنظيم والبناء، أما كلمة نسق فإنها الأقرب إلى التعبير عن مجموعة من الأفكار المتوافقة من دون قواعد محددة وهذا هو الأنسب للتعبير عن الواقع الفكري لهذا التيار. هكذا، تتم السيطرة على الجماهير من خلال قدرات فائقة إعلامياً واقتصادياً بهذا النسق من الفكر الديني المموه. * كاتب مصري
مشاركة :