ثقافة الموت وثقافة الحياة

  • 10/7/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

هل ربح العرب معركتهم مع الحداثة في اللغة وخسروها في الواقع؟ ولكن كيف يمكن لهذا السؤال أن يملك مشروعيته إذا ما سلّمنا بأن العرب، صرفوا القرن العشرين في استهلاك الحداثة، ولم يتح لهم المشاركة في إنتاج أي من مفرداتها؟ لطالما راودني هذا السؤال الكئيب خلال السنوات الأخيرة، فعلى مدار عقود من الصراع الاجتماعي والسياسي في المنطقة تنافست قوى الظلام والرجعة مع قوى النور والتقدّم، في اقتتال متعدّد الأوجه لحيازة الحاضر وتحديد صورة المستقبل ليس فقط في العالم العربي، ولكن في مجتمعات وكيانات مجتمعية في إيران، وتركيا وإسرائيل، وللمفارقة، فإن الأخيرة تشكّلت وقدّمت نفسها ككيان مستقل، ومعترف به دولياً، في الفترة نفسها التي نالت فيها الكيانات العربية المحيطة بها والمتنافسة معها استقلالها عن قوتين استعماريتين ربحتا الحرب العالمية الثانية، إنكلترا وفرنسا. *** عقود مرت منذ أن تنازل المنتدبون عن انتدابهم، وبزغ نجم الدول المرفرفة أعلامها بالرموز الدالة على الأصل والمنعة والسموّ، من دون أن تملك تلك الدول استقلالا حقيقيا عن معسكري الصراع الهائلين في مناخ ما سمي بالحرب الباردة، ولا في منأى عن آثار ذلك الانقسام الأممي. على مدار عقود من الصراع الاجتماعي والسياسي في المنطقة تنافست قوى الظلام والرجعة مع قوى النور والتقدّم، في اقتتال متعدّد الأوجه لحيازة الحاضر وتحديد صورة المستقبل فالصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب طال هذه الكيانات العربية منذ نشأتها، وتقاسمها على نحو ما. ولم تمض سنوات قليلة حتى دخلت هذه الكيانات الوليدة اليافعة في أزمات ومواجهات في ما بينها، تحت عناوين أيديولوجية، غالباً، وفي نزاع فكري طرحت معه، وعلى نحو حادّ، أسئلة الهوية، في مجتمعات تزخر تاريخياً، بالتنوع الإثني والقومي والطائفي، ومما يؤسف له أن وقتاً كثيراً مرّ، ومياهاً عكرة كثيرة مرّت من تحت الجسر، حتى تكشفت للنخب المثقفة أن مجتمعاتها تقهقرت بصورة لا منجاة منها بفعل التخبط الذي طال خياراتها المستقلة، وأن الأيديولوجيات الكبرى المتواجهة في العالم تحت رايتي المعسكرين الرئيسيين: الاشتراكية والرأسمالية قد استولدت في المنطقة أنصارها ومحازبيها ومعتنقي أفكارها، من دون أن تتيح للخصوصيات العربية والشرقية التعبير عن نفسها بشكل طبيعي تحت تلك الرايات، ولا أن تسمح لها بتطوير خيارات ثقافة ومجتمعية وتنموية تسمح لها بمواجهة الرياح العاتية التي خلفها ترنح الأيديولوجيات، وتفكك المعسكر الاشتراكي، ودخول العالم في مهب صراعات جديدة حملتها الخيارات المستجدة للقوى الكبرى في العالم على أعتاب ما سمي فكريا وفلسفيا بـ”موت الأيديولوجيا” و”نهاية التاريخ”، وما لحق بها من هرطقات فكرية مازالت تستولد نفسها في ظل العصر الرقمي والمجتمعات المنتجة والمتحكمة بهذا العصر. على هذه الخلفية اضطرب العالم العربي الذي انكشفت من فوقه غمامة الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، وراحت كياناته تتخبط بصورة لا سابق لها بينما هي تبحث عن السبل لدخول العصر الجديد. *** المشكلة الأخطر التي واجهها العرب، بكياناتهم المختلفة، خلال التحولات العالمية الكبرى، هي الأحوال التي ولدت التهمة الأممية لهم بأنهم الأرض التي أخرجت “الشرور الدينية” عنفاً أيديولوجياً ضاربا في العالم، تبنّته جماعات الإسلام السياسي بطبعاتها المتعاقبة الخارجة أساساً من رحم المختبر الأفغاني، والمتفشية، من بعد، في بيئات محيطة بـ”الصراع العربي الإسرائيلي”، متعللة به ومتقنعة بأقنعته، ومتغذية من صراع تاريخي أيقظه من سباته الانقلاب التاريخي في إيران المدنية وقد تحولت إلى “أممية إسلامية” بأقنعة ثقافية وسياسية تبادلتها مع منافسها السنّي الخارج بالشراكة معها من رحم الفكر “القطبي” نسبة إلى السيد قطب الذي تأثر به قادة الانقلاب الثقافي الإيراني، كما تأثرت، به بدرجات متفاوتة، جماعات الإسلامي السياسي السنّي التي مارست العنف. وقد وجدت لها في ثقافة “الصحوة” السعودية أنصاراً مقنّعين وآخرين بوجوه صريحة. الخضّات الكبرى والحرائق التي دهمت العالم العربي جرّاء إخراج الحراك الديمقراطي السلمي المعادي للاستبداد من جهة، وللمراوحة في مستنقعات الماضي عن سلميته، وتحويل الملامح اليافعة لما سمي بـ”الربيع العربي”، إلى ربيع دامٍ.. لم يذهب نهائيا بأحلام الشباب العربي في الانتقال من ثقافة الموت إلى ثقافة الحياة، ومن عتمة الكهف إلى نور الحرية. على الأقل ولد شيء اسمه الشارع، وولد مخاطبون يطالبون بصيغ جديدة عصرية للحياة العربية. أمكن لبعض الكيانات العربية أن تتعقل وتستدرك ما يمكن استدراكه، وأخذ العبرة من فكرة أن العنف في مواجهة المطالبين بالتغيير، لا يمكن له إلا أن يولّد العنف، ويشعل الحرائق، وهو ما قاد كيانات عربية عريقة حكمها العسكر غالباً، إلى مستنقعات الدم والدمار والتهجير والاحتلال الأجنبي. *** نعود إلى السؤال الأول، حول الحداثة والقدامة والمراوحة الحضارية بين ماضٍ لا يمضي ومستقبل لا يلوح. وهو سؤال مرتبط بشبكة من الأسئلة المعقدة الإجابة عنها تحتاج إلى كوكبة من المفكرين والمثقفين وعلماء الاجتماع. وبما أن المهمة تفيض عن وسع شخص واحد، فلأعد بالسؤال الأول إلى أرض البداهة: هل يمكن لليل أن يسود إلى الأبد، وللشمس أن تتوقف عن الشروق؟ الجواب المؤكد: لا. لا يمكن للزمن أن يتوقف، ولا توجد قوة تمنع الغد من أن يأتي. أكثر فأكثر تتحول اللغة في العالم إلى شيء مركزي. لم يعد العمل اليدوي مصدر الضوء في اللغة والخطاب، ولكن التفكير والحلم والمغامرة العقلية باتت المرجع الذي خلق في جوار العالم الواقعي عالما جديداً (افتراضيا) وسّع من حجم العالم درس السنوات السبع الماضية يقول إن أهل الماضي الكئيب المتمثل بـ”ثقافة الاستبداد والموت” اختطفوا حلم الأجيال العربية التي خرجت إلى الشوارع وبأيديها الورود مطالبة بحقها في الحرية الشخصية والحياة السعيدة. وأغرقوها بالدم والجنون ودفعوا بها إلى أرض اليأس.. لكن الوعي بما جرى خلال العقد الأخير، على مرارة ما جرى، لسوف يكون، باستمرار، في رصيد الأجيال الجديدة. الدروس والعبر ستستخرج لا محالة، ولعل نظرة سريعة على علاقة الشباب بأنفسهم وبعالمهم وما يجري فيها سوف تفيدنا بأن قدرتهم على التغيير لن تتراجع، وتوقهم إلى تحقيق ما يحلمون به سيتقد من جديد. ففي ظل وسائل التواصل الاجتماعي، وقدرة الشباب على استلهام التجارب الناجحة في العالم، المعبّرة بما أنجزته عما يحلمون به ويتطلعون إلى إنجازه، إنما تضرب لهم الأمثال، يومياً، على السبل الممكنة، وقدراتهم اللامحدودة لتحقيق الطموحات ونيل المبتغى. *** من خبراتنا اليومية نعرف أن الأجيال الجديدة أكثر واقعية من التي سبقتها، لما تجمع لديها من خبرات العلم والمعرفة وحصاد التجارب. فضلا عن استعدادها الفطري الأسرع للتواصل مع لغة العصر ومفرداته. لذلك لن تكون، ولا يجب أن تكون، علاقة هذه الأجيال باللغة كعلاقة أجيال سبقت بها. ولا يجدر بأن نملي عليها خيارات ثقافية تتعارض مع زمنها والميول الكبرى السائدة والمستجدة في عصرها. حتى العلاقة باللغة سوف تتغيّر حكما بفعل التجارب التي سيقبلون عليها والخيارات التي ستتاح لهم. أكثر فأكثر تتحول اللغة في العالم إلى شيء مركزي. لم يعد العمل اليدوي مصدر الضوء في اللغة والخطاب، ولكن التفكير والحلم والمغامرة العقلية باتت المرجع الذي خلق في جوار العالم الواقعي عالما جديداً (افتراضيا) وسّع من حجم العالم. ومنذ أن رفع ستيف جوبز يده في ذلك المؤتمر الصحافي ولوّح بتلك العلبة الصغيرة (الآي فون) تحوّلت اللغة إلى شيء باهر، متجدد بسرعة مذهلة، أكثر من يملك التعامل معها ومجاراتها والتمتع بها هم الشباب. هل اللغة شيء قليل؟ في البدء كانت الكلمة وهي لطالما كانت ناقلا خلاقا وحيويا للأفكار الجديدة.. وأداة مدهشة لخطابات التغيير؟

مشاركة :