الشارقة: عثمان حسن قال الروائي البرازيلي جورجي أمادو يوما «إن الدم العربي لعب دوراً من أكبر الأدوار شأناً في ديمقراطيتنا العرقية، وفي مساهمتنا في الثقافة العالمية، وفي نزوعنا الإنساني، لقد اندمج السوريون واللبنانيون والعرب من البقاع الأخرى أيضاً مع البرتغالي والسلافي والإسباني في هذا الخليط العجيب، الذي أنجب الإنسان البرازيلي».إن تأثيرات العرب والمسلمين في الثقافة اللاتينية، هي تأثيرات واسعة، في الشعر والرواية وفي القصة، وفي رسم الشخصيات وفي كثير من الأشكال والمضامين، ولعل ما يمكن الإشارة إليه في هذا الصدد، أن مجمل الكتاب اللاتينيين المعاصرين، من غابرييل غارسيا ماركيز وأوكتافيو باث، وخورخي لويس بورخيس، وجورج أمادو وغيرهم الكثير، قد تأثروا بهذا المنجز الأدبي العربي والإسلامي.لكن، هل حقاً، أن صورة العربي في أدب أمريكا اللاتينية تمثل نموذجاً مشرقاً، أم أنها صورة إشكالية فيها نزوع أيديولوجي، أو استشراقي متأثر بالمدرسة الغربية الكلاسيكية، التي ترى العربي في صورة أقل ما يقال عنها إنها نمطية، ولا تمثل سعياً بحثياً جاداً وكاشفاً، أو نقدياً مقارناً؟ ومن جهة أخرى، ما حجم هذا التأثر، هل هو كبير وثري، أم أنه مبتسر ولا يستحق الاهتمام؟أسئلة كثيرة تخطر في البال، ونحن نتطرق للتقاطعات أو التأثيرات ما بين آداب أمريكا اللاتينية والآداب العربية والإسلامية، في ضوء كشف الأبعاد التاريخية والإنسانية، لهذا الموضوع الحيوي، الذي يجعلنا نتوقف أمام تحول لافت في آداب هذه القارة، التي شهدت هجرات عربية من فلسطين وسوريا ولبنان خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، وما حمله هؤلاء من سحر وتصورات وخيال قصصي على غرار ما جاء في «ألف ليلة وليلة»؟.إذا صح ذلك، فنحن -على الأقل- مطالبون، كدارسين وباحثين، بتتبع أثر هذه الصورة والنفاد إلى شكلها ومضمونها، ومعرفة تأثيراتها الأفقية والعمودية، وأبعادها التاريخية والسياسية والثقافية، وعدم الاكتفاء برصد أجناسها سواء في الشعر أو القصة أو الرواية؟.أمام فقر الدراسات المتوفرة عن «صورة العربي في آداب أمريكا اللاتينية» وفي ضوء ما هو متوفر من نتف هنا، وهناك، يمكن -على الأقل- التوقف عند قامة أدبية كبيرة، ممثلة ب «بورخيس» (1899 - 1986)، الذي يبدو أنه أحد أبرز الكتّاب اللاتينيين، الذين تأثروا بالأدب العربي منذ طفولته، كما سنحت له فرصة قراءة «ألف ليلة وليلة» في المكتبة، التي تركها له والده.وقد توقف بورخيس عند موضوع السحر في الكتاب، كما هو في «الجني والمصباح» أو كما يطلق عليها «مصباح علاء الدين» و«السندباد البحري» و«علي بابا والأربعين حرامي» وغيرها، وكان ولعه بقصص السحر في الكتاب، ينبع من تلك الغرائبية، التي استثمرها في توظيف لفن الحكاية، لتقترب من عوالم السحر والخرافة والتخييل، وهو الذي أبدع في رسمه في كثير من القصص التي كتبها.ينبع ذلك كله من انبهار بورخيس بالشرق وسحره، وقد اعتبر كتاب «ألف ليلة وليلة» مرجعاً مهماً في هذا الإطار، تبعاً لشغفه بعوالم الشرق، في الهند والشرق الأدنى، وبهذا فقد كانت عوالم «ألف ليلة وليلة» بالنسبة إليه، هي عوالم فريدة من نوعها لا تنتهي، وتستمر في القص وإبداع زمن لا متناه معتبراً أن هذه القصص هي كنوز ثمينة قدمها الشرق للغرب.يشير الناقد إبراهيم العريس إلى اهتمام بورخيس بالأدب والتراث العربيين سواء كانت النصوص المرتبطة بهما حقيقية أو من اختراع بورخيس نفسه، وقد رافقه هذا الاهتمام منذ بداياته، فليس هناك أي مجموعة قصصية له تخلو من نصّ «عربي» أو أكثر.حكايات بورخيس العربية أو المستوحاة من الحكايات العربية، بحسب العريس، إنما تنم ليس فقط عن تبحره في التراث الحكائي العربي؛ بل كذلك في الفكر العربي ومعانيه ودلالاته وصولاً إلى معرفته بالشعر الجاهلي، وتوقفه بخاصة عند معلقة زهير بن أبي سلمى، كما عند الجاحظ.غير أن هناك ما يشي بنوع من النزعة الأيديولوجية في كيفية تعامل بورخيس مع الأدب العربي، من ذلك ما ذهبت إليه الباحثة عزيزة السيد الخولي في دراستها «المثاقفة بين الأدبين العربي والإسباني.. بورخيس نموذجاً- دراسة مقارنة»، التي أبرزت في دراستها نحو أربعة مؤثرات عربية وإسلامية في أدب بورخيس، بينها القرآن الكريم، وألف ليلة وليلة، ومؤثرات صوفية وفلسفية ومذهبية، كتوظيفه لتراث ابن رشد ومحيي الدين ابن عربي، وفريد الدين العطار وغيرهم، ومن حيث الشكل اهتمامه بملامح ظهور الشخصية العربية في أعماله.مثلت «ألف ليلة وليلة» بالنسبة إلى بورخيس مرجعاً في كثير من صياغاته الأدبية وما فيها من شخصيات وحوادث كما في مؤلفه «كتاب الرمل».. وكما في قصته «غرفة التماثيل»؛ حيث أبرز جانباً من الحكايات الشعبية، ووظف الكثير من الاستعارات كما هو في «الإخوة السبعة»، و«الرحلات السبع»، والقضاة الثلاثة«، و»الأمنيات الثلاث«، و»الوزراء الثلاثة«، و»العقوبات الثلاث».. وكان عنده اهتمام واضح بالقصص العجائبية؛ مثل: علاء الدين والمصباح العجيب، وعلي بابا والأربعين لصاً، ورحلات سندباد البحر.في دراسات كثيرة لباحثين عرب، يبرز الكتاب (بورخيس، وفوينتس، وماركيز، وباث).. بتركيزهم على موضوعات الأدب العربي، كالشعر والسرد، واللغة وهؤلاء الأربعة يبدون اهتماماً ظاهراً بهذه الموضوعات، فأكتافيو باث يقول «ليس هناك حضارة تخلو من جسم شعري متكون من قصائد ومجموعة من القواعد التي تنظمها» ويشير إلى العربية بين لغات أخرى، في إطار غزارة التقاليد الشرقية كما في الهند والصين واليابان.تصدرت «ألف ليلة وليلة» اهتمام أبرز الكتاب اللاتينيين، ودورها مع «مقامات الهمذاني» و«كليلة ودمنة» في اكتشاف فن الرواية في القرون الوسطى مع إشارة خاصة ل «ألف ليلة وليلة» التي تركت بصمتها في أبرز رواية إسبانية على مر العصور، «دون كيشوت» لميغيل دي ثيرفانتيس.و«ألف ليلة وليلة» شكلت مصدراً من مصادر الإلهام الأدبي عند شعراء لاتينيين، كالنيكاراغوي «روبان داريو»، والأرجنتيني «لويبولدو لوغونيس».من جانب آخر، فقد كان لتأثيرات شعر الغزل وبالأخص «الحب العذري» حضوره في الأدب اللاتيني، كما هو في «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، وما كتبه ابن داوود من أشعار، وهو الذي يؤكد رؤية أفلاطونية في هذا الشعر تنظر إلى الحب بوصفه حالة طهرانية روحية، بعيدة عن كل ما هو مادي.. وهو ما يرصده «أكتافيو باث» في تأثير ابن داوود في كتاب «طوق الحمامة» للأندلسي.يتناول «كارلوس فوينتس» موضوع تأثير اللغة العربية في اللغة الإسبانية، مشدداً على أهمية الاستعارات العربية في الإسبانية، وحضور هذه اللغة في اللغة القشتالية.يتبدى إعجاب ماركيز باللغة العربية كما في روايته «قصة موت معلن» الحافلة بشخصيات تحرص على تقاليدها التراثية والثقافية؛ حيث تبرز موضوعات التراث الكلاسيكي العربي والإسلامي عند مجمل الكتاب اللاتينيين على حساب التأثيرات الأدبية العربية معاصرة، باستثناءات طفيفة تشير لنجيب محفوظ، والطاهر بن جلون، في نطاق الحديث عن الفن الروائي في القرن الحادي والعشرين.يتضح مما سبق أن انشغالات الأدب اللاتيني بالأدب العربي قد غامرت في مديات الخيال والأسطورة، ورصد الواقع، وقد برزت فنون قصصية وروائية، على درجة من الدهشة الممهورة بفتنة الخيال، وسحر الشرق.يشير بعض النقاد إلى تشابه الموضوعات والمعالجات، بين كتاب أمريكا اللاتينية والكتاب العرب، بصلة ذلك بالاستعمار والفرز العرقي، جرّاء موجات الهجرات الإسبانية الأولى إلى القارة الجديدة، حين اكتشاف الأرض اللاتينية واختلاط الدم الإسباني بالعربي الأندلسي.هناك قصة شهيرة في التراث الأندلسي، يشير إليها الروائي المصري جمال الغيطاني في معرض حديثه عن الروابط المشتركة بين الأدبين اللاتيني والعربي بعنوان (الفتية المغرر بهم) وتحكي قصة ثمانية شبان من الأندلس ركبوا سفينة وغابوا في المحيط الأطلنطي سنوات حتى انقطع الأمل في عودتهم؛ لكنهم عادوا وأنبأوا عن أرض جديدة، بها كل المواصفات التي اكتشفت في أمريكا اللاتينية.يشير الغيطاني إلى الوشائج والجذور الوطيدة بين العرب وأمريكا اللاتينية، خصوصاً مصر، مدللاً على ذلك بحضارة «المايا» التي تكاد تشبه ما تركته الحضارة الفرعونية من إهرامات تجد ما يشبهها في المكسيك، وبعض دول أمريكا اللاتينية، وفي ذات الإطار بعض العادات وملامح كثيرة من الفلكلور، وبعض الطقوس المرتبطة بالموت وبالحياة.
مشاركة :