يسعى الاقتصاد السعودي لكسرِ طوق الرتابة والقولبة «النفطية»، فيما تُكابد السوق المالية السعودية من الرتابة؛ فمؤشرها يتحرك على مهلٍ للأسفل قليلاً ثم بتثاقل للأعلى ويُعاود الرتابة، كما «البندول». ويمكن الجدل أن حالة انفصامٍ تسود بين سوقنا المالية واقتصادنا الوطني، وأنه لا بد من إزالة التجاهل المتبادل بين السوق المالية والاقتصاد (سياسته المالية والنقدية)، ولعل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه كسر حالة الرتابة التي تفقدنا جزءاً مهماً من الحيوية المفترضة في سوقٍ نُعَول عليها كثيراً في القادم من الأيام، وقد يتحقق ذلك من خلال بضع خطواتٍ قصيرة ومتتابعة، منها: أولاً- من الضرورة الخروج تماماً من انكفاءة «2006»، ببثٍ ممنهج للحيوية في السوق، بطروحات ذات وزن تحمل رسائل اقتصادية ذاتَ وزنٍ كذلك، كطرحِ مزيدٍ من أسهم الشركات الكبرى المدُرجة كالكهرباء والاتصالات و«سابك» والعقارية، وهذه خطوة لا تستغرق طويلاً وليست بحاجة إلا لقرار من صندوق الاستثمارات العامة بالطرح، وستجلب موضوعياً قدراً هائلاً من الحيوية. ثانياً- قبل طرح أي جزءٍ من شركة أرامكو السعودية، التأكد من أن الخطوة الأولى اكتملت (طرح حصص من الملكية الحكومية في الشركات المدرجة)، من أجل: 1.تعمق السوق المالية، وتحرير ملايين الأسهم ما برحت تعيش منذ إصدارها خارج التداول! 2.إعادة إشراك المواطن السعودي ثانيةً في السوق ومنحه الفرصة لتحقيق مكاسب عبر الربط بين تلك الطروحات وسياسة الادخار، 3. الربط مع سياسة الخصخصة التي كنا نعتقد لفترة طويلة أنها لا تقوم على شرط انخفاض (أو ارتفاع) الايرادات النفطية، لكن تبين من القرائن أن الاهتمام بها، أي الخصخصة، متلازم مع شح الإيرادات! والأهم، أن هذه الخطوة تنسجم وسياسة الخصخصة التي تتبناها المملكة ضمن برنامجها للإصلاح الاقتصادي، والرؤية 2030، وخطة التحول الوطني التي ستتضح تفاصيلها قريباً وفق ما أُعلن. ثالثاً- إطلاق شركات جديدة لقطاعات تحتكرها الحكومة، كتأسيس وإطلاق شركة مساهمة سعودية للمطارات (شركة المطارات السعودية)، وطرح جزء منها في السوق المالية (تداول) مباشرة و«بلا طول سيرة»، وبعد ذلك تتولى الشركة مهمة استثمار هذا المرفق الوطني الكامن اقتصادياً، عوضاً عن الدخول في دهاليز «اقتصاد المطارات والطيران» عبر بوابات البيروقراطية الحكومية، بما في ذلك التخلي عن الأسلوب الحالي، بتولي الجهة الحكومية المعنية خصخصة ذاتها بذاتها! فتجارب الماضي والتجارب العالمية تبين أن عملية الخصخصة يجب أن تفصل عن الجهة قيد الخصخصة، فمثلاً خصخصة الخطوط السعودية لم تتحقق حتى الآن، فيما عدا بعض الأنشطة التي تساند الأنشطة المساندة، على رغم تعاقب السنين! ومثال ثانٍ، أن ننشئ شركة للمياه (تضم الانتاج والنقل والتوزيع)، وتضم مصالح المياه في شتى مناطق المملكة، ولا يبدو وجود مانع من أن تُولّد تلك الشركة (شركة المياه الوطنية) شركات عدة للتوليد والنقل والتوزيع. ومثال ثالث، تأسيس شركة للمشتقات النفطية (التسويق والنقل والتوزيع)، ورابعة وخامسة..وعاشرة. كل هذا قبل طرح أرامكو، أو لنَقل تهيئة الأجواء لطرح أرامكو، أو لنَقل «رفع» لياقة سوقنا المالية المتثاقلة الحركة لتتهيأ لمجاراة ما يتطلبه طرح جزء من «الحوت الأزرق» من على منصة اعتادت طرح أسماك صغيرة ومتوسطة والقليل القليل من أسماك الهامور، أما طرح الحوت فذاك أمرٌ خارج عما اعتادت السوق ممارسته. ثالثاً- يمكن القول إن أحدث «الرتابة» السائدة في سوق الأسهم سببه افتقار السوق لمحفزات كفيلة بجذب النشاط مجدداً، فالإصدارات التي شهدتها السوق إجمالاً هامشية من حيث القيمة، وتتمحور في قطاعات عالية المخاطر مثل قطاع التأمين والمقاولات وبعض الشركات العائلية المتوسطة، أما النشاط العائلي ونشاط القطاع الخاص السعودي فبعيد (مسيرة عامٍ) عن السوق المالية. رابعاً- إن إعادة الحيوية للسوق مجدداً تستوجب الاستفادة من تجارب الماضي، فالاقتصاد السعودي بحاجة إلى سوق مالية حيوية تساعده على التنوع، وتسانده لإطلاق مبادراته الكبرى، فهي التي يُعَول عليها في نجاح برنامج الخصخصة، ولتمدّ القطاع الخاص وأصحاب المشاريع برأس المال. فضلاً عن أنه يعولّ على هذه السوق تحريك ملف الاسكان، وإلا من سيقوم بتسنيد الرهون العقارية ويحافظ على سيولة سوق الرهونات العقارية المرتقبة؟! خامساً- سوقنا ما زالت تُصرّ علي الابقاء على مسافة آمنة مُبالغ فيها، بينها وبين الغرباء، بل وحتى الأقرباء، فمنذ سنوات والهيئة منكبة تدرس الانفتاح التدريجي على المستثمرين الأجانب، وعندما أصدرته جاء متحفظاً محافظاً فيه الكثير من التوجس والتحوط، وأصدق برهان هو تواضع الاقبال عليه. وبغض النظر عن نتائج مبادرة السماح للأجانب، فالسوق المالية السعودية تغرد -إجمالاً- خارج سرب اقتصادنا السعودي؛ فاقتصادنا تقليدياً مُنفتحٌ: (1)منفتحٌ على استيراد وتصدير السلع والخدمات، 2.منفتحٌ حتى الغَرَق على استقدام العمالة، رغم أن هذه السوق (سوق العمل) هي التي تسعى الدول -بما في ذلك الاقتصادات المتقدمة- عادةً لحمايتها وتقنين دخولها لتبقي أفضل الوظائف لمواطنيها، (3) منفتحٌ على الاستثمارات الأجنبية المباشرة عربياً وشرق-أوسطياً، وليس أدل على ذلك من جهود الهيئة العامة للاستثمار في هذا الصدد. كل ذلك لم يحرك لسوقنا المالية ساكناً سوى التداول الداخلي ومبادرات متباعدة ومتثاقلة للانفتاح على المستثمرين الأجانب. وختاماً- أهمية إطلاق هيئة السوق المالية مبادرة رصينة -كما هو ديدنها- تعزز روابط التناغم والتكامل بين السياسة النقدية والسياسة المالية واستراتيجية التنويع الاقتصادي من جهة، وبين سوقنا المالية من جهة اخرى، بحيث تتماهى تلك الروابط مع المبادرات التي ترتكز على حيوية واستجابة السوق المالية مثل: الخصخصة، والاستثمار، والادخار، والتمويل العقاري، وخيارات تمويلية للمنشآت الناشئة والصغيرة والريادية. وما يبرر اقتراح ذلك، أن نظام الهيئة وإجراءاتها تتيح لها مجالاً واسعاً للتحرك. وإن كانت الهيئة قد قضت المرحلة السابقة في التأسيس، فملائم أن تنطلق الآن لتعزيز وضع ومساهمة السوق المالية بما يوظف إمكانات اقتصادنا الوطني، ويحقق تطلعاته لمرحلة قادمة حاسمة ليس بوسع سوقنا المالية أن تقف منها موقف المتفرج، ولا يليق بدورها إلا أن يكون محورياً ارتكازياً، فهي من سيجلب المال لزيادة سعة الاقتصاد وبنيته التحتية، وتوفير التمويل لأنشطته الفوقية، بعد أن أخذت بوصلتنا في التحول من ريع النفط إلى عوائد الإنتاج.
مشاركة :