الشارقة: علاء الدين محمود شهدت أمريكا اللاتينية هجرة كبيرة قديمة لأجناس متعددة، حتى صارت معظم دولها تحفل بثقافات متباينة في خلفياتها، ليشكل ذلك الاختلاف نسيج مجتمع تلك الدول، ولعل من أكبر تلك الهجرات التي شهدتها القارة، هي الهجرة العربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خاصة من دول الشام «سوريا ولبنان وفلسطين»، وكان لتلك الهجرة دور تأثيري كبير في تلك المجتمعات.يحضر العربي بكل ثقله في أدب أمريكا اللاتينية، خاصة في جنس الرواية، ليكون ذلك الحضور تارة عابراً، لكنه يؤكد ثقله ثقافياً، وأخرى مركزياً في قلب السرد، على نحو شخصية رياض الحلبي في رواية «حكايات إيفا لونا» لإيزابيل اللينديشخصيات عربية عدة في صور مختلفة حفلت بها روايات جارثيا ماركيز مثل «قصة موت معلن» و«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، و«مئة عام من العزلة»، حيث تحضر شخصية السوري موسى، التاجر العربي في روايات ماركيز، والذي يبدأ رويداً رويداً بفقد اللغة الأم، فالعربي في أدب ماركيز يبدو أكثر تبجيلاً واحتراماً، فهو بطل يحمل جينات الشجاعة والبحث الدائم عن العمل، ويلجأ إلى التفكير والتأمل، وكذلك البرازيلي جورجي أمادو، في أعماله: «كيف اكتشف الأتراك أمريكا؟»، و«جابريلا والمسمار والقرفة» و«سان جورجي ابن الهوس» و«السيدة فلور وزوجاها»، ولعل بورخيس هو أكثر الأدباء الذين تناولوا ذلك الحضور في أعمالهم، وحفلت سردياته بالمحكيات العربية، ومن أبرز تلك الأعمال قصة «المقنّع».لكن ذلك الحضور لم يكن فقط من خلال الشخوص وموقعها من الرواية، بل وكذلك في التأثير المباشر، الذي جعل السرد اللاتيني محتشداً بالغرائبيات، تلك الفضاءات السحرية التي عرف بها الأدب اللاتيني، والتي قام كثير من النقاد بردها إلى التراث العربي والذي يحتشد بالأساطير والخرافة والقصص والحكايات ذات الطابع الغرائبي، مثل ألف ليلة وليلة ومصباح علاء الدين وغيرها من القصص التي تسبح في فضاء خيالي، وقد انتقل ذلك التراث إلى هنالك حياً، عبر تلك الهجرات، فالناس عندما يهاجرون يحملون مكونهم الثقافي الأصلي والمتمثل في تصوراتهم وعوالمهم وأساطيرهم، وهذا ما انطبق تماماً على العرب في هجرتهم، وعلى الرغم من ذلك فهنالك شح في الدراسات التي لامست تلك الحقيقة الموضوعية، والمتمثلة في التأثير الذي مارسه العرب في حيوات الناس هناك. ولعل كتاب «صورة العربي في سرديات أمريكا اللاتينية» لريجيبرتو أرنانديث الذي أصدره مشروع «كلمة» للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ترجمة أحمد عبداللطيف، هو واحد من الإشرقات الكبيرة التي أضاءت عتمة البحث الشحيح في مجال عكس أثر وصورة العربي في أدب أمريكا الجنوبية، وإسهام العرب في تكوين فضاء السرد اللاتيني حتى صارت له خصوصيته الكونية التي يعرف بها، فالمؤلف يغوص عميقاً في رصد التأثيرات والتحولات الثقافية الكبرى، التي أنتجت في القرن العشرين، واحدة من المدارس الفكرية والأدبية المهمة «الواقعية السحرية»، حيث يتتبع أثر الأدباء العرب الذين كان لهم الفضل الأبرز في ترسيخ ذلك التيار الأدبي، والذين يطلق عليهم اسم «الآباء المنسيون للواقعية السحرية»؛ إذ إنهم لم ينالوا التقدير اللازم والشهرة الكافية في الأوساط الأدبية في أمريكا اللاتينية، لكن تأثيرهم كان كبيراً وحاسماً، ومن أبرزهم الروائي لويس فياض، الذي ينتمي للجيل الثاني من المهاجرين. ويقدّم لنا المؤلف تجربة العديد من المؤلفين والأدباء الكبار الذين تأثروا بالحضور الثقافي العربي، وهم الذين أوصلوا ما عرف ب«الواقعية السحرية»، بشكل فعلي إلى مكانة عالمية بارزة في الإبداع العالمي، حيث حفلت أعمالهم بالحضور العربي الكثيف في ثنايا النص، أمثال: جابرييل جارسيا ماركيز وبورخيس وجورجي أمادو وإيزابيل الليندي وبارجاس يوسا، وغيرهم من أدباء القارة الكبار، وتعكس الأعمال التي مارسوها، فمنهم التاجر، والحلاق، والمثقف، والأكاديمي أو الأستاذ الجامعي، والملاحظة الأبرز في هذا السياق، أن العرب لم يقوموا بنشر ثقافتهم عن قصد، فقد عاشوا في مجتمعات شبه مغلقة خاصة بهم، يمارسون أعمالهم التي بدأت بالعمل كباعة متجولين، حتى وصلوا إلى مرحلة التجارة المستقرة، ثم بلوغهم إلى مراتب عليا عبر التحصيل الأكاديمي، ورغم أنهم قد عاشوا في ظل تلك العزلة، لكن يبدو أن هذه الخصوصية كان لها جاذبيتها وسحرها، فتعمقت ثقافتهم وطرق عيشهم في صلب البنية الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى قدر الانصهار المحبب، ومن ثم التأثير في كافة مجالات الحياة هناك، وبدأت تتضح ملامح صورة العربي، وبشكل خاص على الأدب، فكما يرى المؤلف نفسه، فإن «تاريخ البشرية هو تاريخ الهجرات»، ولعل هذا الحديث للكاتب، كان بمثابة الانطلاق الحقيقي للبحث في تاريخ الأثر العربي داخل المجاهيل اللاتينية، حيث تتبع أثر البدايات الأولى، في محطات شكلت الحضور الأول، حيث كانت دولة «كوبا»، هي أولى الأراضي الأمريكية التي وطئتها قدم العرب، ويرجع تلك الهجرات إلى واقع الصراع في البلاد العربية الأم، والواقع الاقتصادي الأليم في بعض البلدان مثل لبنان، وقد احتفى الأدب الكوبي بتلك الهجرة.ويذهب المؤلف إلى تناول الأدباء والكتّاب من أصول عربية، وموقعهم في خريطة السرد الأمريكي اللاتيني و«الإنتاج الأدبي لأبناء المهاجرين، الحالة التشيلية والكولومبية والمكسيكية، والمهاجرين الفلسطينيين في الخيال السردي التشيلي»، فهو يرصد قرابة سبعة وثلاثين كاتباً من أصول عربية، والذين اهتموا بشكل خاص بالكتابة في أفق إبداعي عن الهجرة، عن الانتقال إلى فضاء جديد، حيث اهتموا برصد فكرة الانتقال والانفصال من جذورهم، والمراحل الاجتماعية في واقعهم الجديد، حيث التهميش في البدء، ثم الاندماج، فقضية الهوية شكلت حضوراً أساسياً في أدب المهاجرين من أصول عربية، ومن هذه الأعمال التي رصدت هذا الواقع، نجد رواية «المسافر ذو البساط السحري» لوالتر غريب، و«المغترب بعينين لامعتين»، لخايمي هالس، و«أقرباء إستر»، للويس فياض، و«في الصيف، الأرض»، لكارلوس مارتينيث.
مشاركة :