رواية مفتوحة بلا أمكنة تصلح لكل زمان ومكان

  • 10/9/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

غالبا ما تلغي أعمال الوجوديين الأدبية عنصري الزمان أو المكان، في سحب لمضمونها على كافة الأزمنة والأمكنة، تأكيدا على أن مآزق الإنسان التي تعالجها متشابهة أو هي واحدة لا ضرورة لحصرها ببيئة ما. وهذا ما انتهجه سعيد الشيخ في روايته الجديدة التي حاول فيها مقاربة حال العرب دون تقسيم. “العرب” حاورت الشيخ حول روايته الجديدة وعوالمها. في رواية “أرجوحة بلاء”، الصادرة مؤخرا عن “منشورات ألوان عربية” في السويد، يسرد الروائي الفلسطيني سعيد الشيخ موضوعا اجتماعيا يخوض في معاني الفقد والحرمان والابتلاء التي تعصف بالإنسان العربي بغض النظر عن الجغرافيا التي ينتمي إليها. يُصدر الشيخ روايته بقوله “أي قرية أو مدينة في الجغرافيا العربية تصلح لأن تكون مسرحا لأحداث هذه الرواية خلال سنوات الخمسينات إلى السبعينات من القرن الماضي.. أما عن مدى الواقعية في هذه الرواية، فهي موزعة بين هذه السطور المتخيلة”. في “أرجوحة بلاء” يعمد الكاتب إلى إغفال التركيز على عنصر الزمن داخل الرواية باستثناء إشارة عابرة في بداية الرواية إلى هزيمة 67، التي تزامن معها بدء دراسة الراوي “حميد”. المتخيل والحقيقي يلفت الشيخ إلى أن الرمزية قادته للبداية من خمسينات القرن الماضي، حيث من المفترض أنّ النهوض العربي سيبدأ من تلك الحقبة؛ الاستقلال وما سيليه من عمليات البناء على كل الأصعدة بما فيها بناء الشخصية والهوية الوطنية والقومية. إلا أن ما شهدناه من تلك الحقبة هو النقيض للنهوض والازدهار. بدت الحياة العربية حينها تتعثر وتمضي تحت وطأة من العجز، وهو مازال مستمرا منذ أن تأسس على نكبة ضياع فلسطين عام 1948. رمزية المشهدرمزية المشهد ويقول الشيخ “منذ بداية الرواية ذكرت أن لا مكان محددا لأحداث هذه الرواية، سوى أنها أحداث تعصف بالإنسان العربي في كل مكان من الجغرافيا العربية. وذلك محاولة منّي لتصحيح خطأ نسب كل عمل إلى جنسية الكاتب. ليس بالضرورة أن يكتب المبدع عن نفسه وأهل بيته وعن دائرة أصدقائه أو حتى عن الشعب الذي ينتمي إليه، طالما أننا محكومون لجنسنا الإنساني، فإننا معرضون دائما للتأثر بأحداث بعيدة عنا. وتعويضا عن تسمية المكان في الرواية، لجأت إلى وصف البيئة الاجتماعية العربية ككل بما لها وعليها. الرواية هي رواية عربية بكل ما ينطبق على المجتمع العربي من خصوصيات ومواصفات. وحين نتحدث عن القسوة والعجز، فإنه ليس مثل العالم العربي من مكان تنطبق عليه هذه المواصفات”. ويرى الشيخ أن الكاتب شاهد على عصره، حتى وهو يكتب عن نفسه، فهو لا يستطيع الانفكاك عن قيم مجتمعه، حتى ولو جاء باللامألوف، فإن صدى الجذور سيبقى يفرض حضوره. يكفي الكاتب أن يلتقط بمحض الصدفة حادثة بسيطة ليخلق منها عملا إبداعيا، والكاتب الحقيقي والمميز هو من يستطيع تذويب المتخيل بالحقيقي والعكس صحيح دون أن يلحظ القارئ ذلك، لينتج رائعة أدبية تستطيع منح المتعة الآنية من قراءتها، ولتعيش لاحقا في الذاكرة كوثيقة معرفية. ويبين الشيخ أن ثمة رمزية تعج بها أحداث الرواية رغم موضوعها الاجتماعي الذي يبدو مهيمنا في القراءة الأولى، فعجز الزوجين بطلي الرواية عن إنجاب الأطفال برغم أنهما يعيشان بالكثير من الحب المحاط بالكثير من الأحلام والتمنيات، يخفي الكثير من الرمزية والدلالات عن واقع عربي مأزوم لا تسعفه التمنيات ولا الأحلام للخروج من أزماته، إذ أنّ الخسارة تجر الخسارة في حياة الزوجين وكأنّ كل شيء في الوطن العربي هباء بهباء. الزمن في الرواية بقي مستمرا ولم ينته عند التقاء الزوجين مرة أخرى بعد ضياع. فالرواية مفتوحة وتصلح لكل زمان ومكان، إذ مازال الزمن الفجائعي يحفر في الحياة العربية ويترك معالمه على شكل مآس وكوارث تتوالد. فالضياع ما عاد الآن في زحمة ما يواجهنا كـأمة من مصائب طبيعية أو مرتبة. الضياع الآن أصبح فكرياً أو أنه ما عاد نظريا. تعدد الأصوات تتنوع الأصوات السردية داخل رواية الشيخ “أرجوحة بلاء”، فلا يوجد راو عليم واحد وإنما كل الشخصيات الرئيسية داخل العمل تتحدث عن نفسها بصوتها الخاص، ويُبين الكاتب “مع انتفاء المكان في الرواية يمكن القول إنها رواية أصوات، كل شخصية تتحدث عن نفسها. وجدت هذا الأسلوب هو الأصدق والأقرب إلى الحقيقة، حاولت قدر الإمكان أن أظلّ بعيدا عن بين السطور. كموسيقي يضبط الإيقاع وككاتب ليس لي أن أتدخل في مشاعر أنثى مفجوعة من حرمانها من الأطفال وبالتالي حرمانها من الأمومة، تركتها تعبر عن نفسها، هي أدرى بنفسها وبمشاعرها. كان شغلي هو ضبط هذه المشاعر فقط. كذلك لم تكن لي سلطة على بقية الشخصيات في حياتها. لم أتدخل، وهذا ربما ما منح العمل الروائي صدقيته واقترابه من الواقع”. سرد عن المأساة الفلسطينيةسرد عن المأساة الفلسطينية نسأله عمّا أراد قوله من خلال الرواية؛ وهل أراد إدانة التقاليد الاجتماعية أم تصوير قسوة الحياة التي تأتي رياحها بما لا تشتهي السفن أم الترميز السياسي. ليجيب الشيخ “أردت كل هذا، توثيق جانب مهم من الحياة العربية، وإدانة الظلم الذي يستبيح هذه الحياة. أردت التأكيد أن البلاء الذي يكتنف هذه الحياة هو ليس كله من فعل الطبيعة والغيب فقط، يوجد بلاء أيضا من فعل الإنسان بالإنسان وهذا هو الأفظع”. في روايته الأولى “تغريبة حارس المخيم” سرد عن المأساة الفلسطينية وتنوع في الجغرافيات، بينما في الرواية الثانية تغييب كامل للجغرافيات وللأحداث والقضايا السياسية.. ينوه الشيخ إلى أن لكل عمل خصائصه وميزاته. رواية “تغريبة حارس المخيم” هي رواية أمكنة بالمقام الأول. تذهب السردية إلى الأمكنة التي تخدم مشروع الرواية، إلى حيث الجرح الفلسطيني المفتوح. مجزرة صبرا وشاتيلا، المنفى السويدي، الذاكرة والحلم بالوطن، كل مكان له إحداثياته في الحياة الفلسطينية بشكل مباشر أو بشكل موارب. يكتب الشيخ الشعر والقصة القصيرة، و”أرجوحة بلاء” هي الرواية الثانية له بعد “تغريبة حارس المخيم”، ويلاحظ هنا طغيان اللغة الشعرية في السرد. ويلفت الكاتب الفلسطيني إلى أن الطابع الاجتماعي للرواية ليس هو السبب لتوجهه إلى الاستعانة بالكتابة الشعرية، فجميع كتاباته السردية تزخر بلغة الشعر، هذا توجه مقصود منه، ويرى أنه كالمرطب الذي لا بد منه كلما شارفت لغة النثر إلى منطقة الجفاف في السرد. ويستطرد الشيخ “اللغة الشعرية تعيد القارئ إلى التركيز والتأمل، تصنع الدهشة لسرديات تأخذ القارئ أحيانا إلى الملل من جمود مشاهد الأحداث. بشكل عام لا أجد ضررا من وجود لغة الشعر في السرد”، مخالفا بذلك رأي بعض النقاد الذين أعابوا على السرد هذه الميزة، ثم تراجعوا عن نظرياتهم في ما بعد، حتى أنّ قصيدة النثر اليوم صارت أقرب إلى السرد. ما عاد من العيب تداخل تصنيفات الكتابة في العمل الواحد، بل أرى أنها تمنحه غنى ومتانة. فلماذا مسموح للشعر أن يقتحم العوالم السردية، بينما لا يسمح للسرد أن يحلق في سماء الشعر؟ إنّ تقنيات الكتابة تحتاج اليوم إلى مراجعة جريئة تضع العملية الإبداعية عند مستويات أكثر دهشة ورقيا.

مشاركة :