لم يكن ثمة بدٌ من انطلاق الثورة السورية، بنَسقها المعروف إلى الآن، لكي يمكن الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى، لن نكون مُبالغين إذا أطلقنا عليها وصف الثورة الثانية. فالثورة، في واقعها الراهن، تُصيب السوريين بدرجات متفاوتة من الحيرة واليأس. وهي، بمآلاتها وتفاصيلها الحالية، تُثير من الأسئلة أكثر مما توحي بالإجابات. وسنظل جميعاً مُحتارين في فهم الظاهرة، فضلاً عن التعامل معها، مالم نُدرك، بعد سنتين ونصف من عمر الثورة، بعض الحقائق الصعبة، ومالم نعترف بها بكل وضوحٍ وصراحة. لم تنطلق الثورة السورية من تراكمٍ ثقافي وحضاري وصل إليه الإنسان السوري ودَفعهُ إلى الدخول الواعي والمُخطَط في عملية تغييرٍ كُبرى. ليست هذه طبيعة الثورات في جميع الأحوال. والذين يعيبون على السوريين تشبيههم ثورَتهم بالثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية يقفزون بِدَورهم فوق حقيقة تبدو بديهية. فالتاريخ يُخبرنا أن الثورات كانت دوماً مراحل انتقالية. وأنها نتجت عن مزيجٍ من عنصرين: وصولُ بعض المجتمعات إلى درجةٍ من الاحتقان لم يعد ينفع التعاملُ معها من قبل سلطة الأمر الواقع بواسطة المؤسسات والهياكل التقليدية، ووجودُ شرائح من تلك المجتمعات امتلكت مؤهلات صارت تدفعها دفعاً للخروج بشكلٍ صاخب من الواقع السائد، دون أن يكون لديها بالضرورة تصورٌ نهائي ومُتكامل لطبيعة البديل المطلوب. بهذا المعنى، تكون الثورة الحقيقية خروجاً من مشهدٍ للاجتماع البشري لم يعد استمرارهُ ممكناً وفق قوانين ذلك الاجتماع وسُننه التاريخية، ودخولاً في عملية بحثٍ جدﱢية عن مشهدٍ يمكن أن يستوعب المستجدات والمتغيرات التي لاتنفك تتكرر في التاريخ الإنساني. الثورة هنا عملية (انخلاع) جذرية من حاضرٍ صار مرفوضاً على جميع المستويات، وكلما كان الحاضرُ مصراً على الاستمرار بأي ثمن، كانت عملية الانخلاع منه أكثر عُنفاً وصخَباً. أما الرفض الذي نتحدث عنه فهو في جوهره رفضٌ نفسيٌ عميقٌ جداً يطرح على أصحابه التساؤلات حول جدوى الوجود والحياة في ذلك الحاضر أصلاً.وعندما تصل الشعوب إلى هذه المرحلة يُصبح لديها دافعٌ قويٌ للقبول بتضحياتٍ لايمكن تفسيرُها على الإطلاق في الأوضاع العادية. فهنا، يُضحي الأمل في بديلٍ مستقبليٍ، وفي محاولة إيجاده، أكبرَ من الحرص الآني على الوجود وعلى الحياة نفسها في حاضرٍ انتهى احتمالُ وجود معنىً للحياة فيه. في حين أن هناك (احتمالاً) في أن يكون لدى البديل المنشود ما يُعطي للوجود والحياة معنىً وقيمة.لهذا تكون الثورة الحقيقية طويلة. ولهذا تكون على مراحل. ولهذا تكون عنيفة. وهذا ماحدثَ في الثورة السورية إلى درجةٍ كبيرة. حين اجتمعت مجموعة عناصر لم يكن ممكناً انطلاقُ الثورة إلا باجتماعِها. فمن جهة، وصلَ الواقع السوري مع حكم البعث بشكلٍ عام، وفي السنوات الأخيرة تحديداً، إلى درجة من الاهتراء في جميع المجالات، وخاصةً فيما يتعلق بمواضيع أساسية كان النظام يحاول أن يبني مشروعيته بالتركيز (النظري) عليها: التنمية، والحرية، والتحرير (بمعنى استعادة الأرض والمقاومة وما إليها من شعارات). ففي حين كانت الآلة الإعلامية والسياسية للنظام تُمطر المواطن السوري ليل نهار بمقولات وسياسات ومشاريع يُقال أنها تتمحور حول تحقيق الأهداف الثلاثة المذكورة، كان الاتجاه العام لممارسات النظام يسير في الاتجاه المعاكس تماماً.فبعد صبرٍ طويل ومعاناةٍ لايعرف تفاصيلها وحقيقتها إلا السوريون تحديداً، لم يجد ذلك المواطن في الواقع العملي حولَه إلا مايؤكد غياب كل ماله علاقة (حقيقية) بالتنمية والحرية والتحرير. ولئن اشتركت المدينة والقرية في نصيبها من معاناة غياب الحرية ودَفْعِ ثمن التحرير المزعوم، فقد كانت وطأة غياب التنمية ثقيلة جداً على ملايين السوريين ممن لايعيشون في مدن كبيرة قد تنحصر عملياً في دمشق وحلب التي شهدت عمليات تجميل (تنموية)، بينما كان الإهمال يشمل مايفُترض أنه مدنٌ سورية كبرى من دير الزور إلى درعا وغيرها.ومن جهة ثانية، جاءت التطورات العالمية مع ثورة الاتصالات والمعلومات، خلال العقدين الماضيين، لتفتح آفاقاً ثقافية وعملية لشرائح في المجتمع تتوزع على كامل التراب السوري، بحيث بات هؤلاء يُدركون ثقافياً حجم الهوة بين واقعهم وواقع العالم، ويشعرون نفسياً بالحاجة الماسة إلى التغيير، ويملكون قدرةً على استخدام أدواتٍ يمكن أن تُساهم في إحداث التغيير، خاصةً في مجال التواصل والمعلومات.ثم ظهرت مؤشراتٌ عملية على إمكان حصول التغيير المذكور تيمناً بما جرى في تونس وغيرها، فكانت هذه الشرارةَ المطلوبة لاكتمال عناصر المعادلة. لم يكن ممكناً بعد هذا إلا أن تنفجر الثورة. يُغذيها، على مستوى الحاضنة، قهرٌ عامٌ وطاغٍ عاشه أكثر من 20 مليون سوري. وتُحاول تنظيمها، على مستوى القيادة، تلك الشرائح التي تفتحت أمامها بعضُ آفاق التغيير وامتلكت بعض أدواته. وتُعطيها الأمل النتائجُ السريعة لما جرى في تونس ومصر وغيرها. مة عنصرٌ آخر أعطى الثورة في بداياتها الزخم والتألق المعنوي والأخلاقي، ثم إنه مع طول الزمن وشدة الضغط أصبح سبباً رئيساً من أسباب مخاضها الصعب ومآلاتها المُلتبسة، ويتمثل في الثقافة السائدة في المجتمع. ففي الأشهر الأولى للثورة، استخرج المجتمع السوري كل العناصر الإيجابية في ذخيرته الحضارية العريقة. وكانت ردود فعل النظام، على سوئها، لاتزال تسمح لتلك العناصر بأن تكون بمثابة المحددات العامة التي ترسم ملامح الثورة وطبيعتها. فكان التركيزُ على المعاني والقيم الجامعة، وكانت الممارسات العملية التي تؤكدُ على التعاضد والتعاون والوحدة في مقابل (عدوٍ) مُشترك ولتحقيق هدفٍ مشترك. لكن الثورة واجهت ساعة الحقيقة حين واجهت مع نهاية عام 2011 تقريباً، وبشكلٍ واضحٍ وجلي، حقيقة النظام السوري وحقيقة النظام الدولي، وأصبحت في موقع التعامل مع التحديات الصعبة التي عمل النظامان المذكوران على خلقها بمهارةٍ وصبر على مدى الأشهر السابقة.. أين وصلت الثورة اليوم إذاً؟ وماهي طبيعة المرحلة القادمة في مسيرتها؟ هذا موضوع المقال التالي. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :