منذ بضع سنوات عرفته، وكانت أجمل فرصة لي معه عندما حاورته واقتربت من عالمه الإنساني والفني عبر لقاء موسع عن تجربته الشعرية، والذي نشر ضمن ملحقنا الثقافي بجريدة أخبار الخليج البحرينية وتمر السنوات ونلتقي معًا في معرض الكتاب بالشارقة في الإمارات العربية المتحدة في عام 2017. اقتربت من شخصيته أكثر، كان مبتسمًا دائمًا ومرحًا ومضيافًا، وحنونا على من يعرفهم ويصاحبهم، وكان شجيا طيبا عبر علاقاته الإنسانية وعبر تجربته المتفردة في إلقاء الشعر، تبعثه أمسياته التي كثيرًا ما كان الجمهور يخرج منها مترنما بتوقيعاته التي ابتدعها كتيمة شعرية مختلفة عما يلقى. إنه الأخ الشاعر الجميل أبو سعيد، الدكتور طلال الجنيبي، رسالة حب مهما طالت السنون على أن يكبر فيها المرء، تظل هذه السنوات بشيمته الطيبة التي عرفتها من خلال تشبثه بالقلب، رجل يحسن صيد الأصدقاء، ويستعيد المرح من جفون الحزن. كان لصحبته في ربوع دبي، والشارقة، شيء من وفاء أهل الإمارات الطيبين الذين بشيمهم نرسم بسمة جلها، مثل الجنيبي في الاقتراب من إنسانيته. وعبر تجربته الشعرية، كان متغنيا دائمًا بشيء من موسيقى الشجن الجميل، حيث كانت له طريقة مبتكرة التجربة في الإلقاء تحمل عنوان «توقيع صوتي»، والذي قال عنه عندما سئل عمن أطلق عليك شاعر «التوقيع الصوتي» قال: «أطلقه أحد نقاد الأدب الكبار على هذا الأسلوب الأدائي للشعر، عندما حضر ضمن لفيف من المثقفين والشعراء إحدى أمسياتي، واقترح هذه التسمية بعد إعجابه بهذا الأسلوب وحماسه له، فأعجبني المسمى فاعتمدته منذ ذلك الحين» هكذا تحدث عن هذا البعد من التوقيع الصوتي المتفرد في تجربته الإلقائية للشعر. وكانت هذه التواقيع موسيقى أخرى تنطوي بين فلسفتين: ما للشعر من موسيقى وما للإلقاء من فضاء يجمع بين الموسيقى والإنشاد الحسي الخارج من تلاوين يبتكرها الشاعر ويعيد صبوتها نحو فضاءات المتلقي. فالعنصر الإيقاعي حينما يتلقى بالأذن، تحوله الأذن إلى نياط القلب، فإن كان هذا الإيقاع فرحًا فرح مع القلب وإن كان عكس ذلك، انشغل القلب بما فرض عليه. لأن الأذن تألف الموسيقى فتنشغل بها. فصورة الإيقاع الموقع من قبل الشاعر طلال الجنيبي، صورة لا تترك للمتلقي فرصة الهروب من الرسالة المراد إيصالها، فالإيقاع يجعل من الشعر مطواعًا، فتكون كل الجهات مشرعة لاستقبال ذلك النغم. فالنغم الذي يتساوى فيه بعد البيت الشعري وما يحمله من أحاسيس بالإيقاع، تحيله هذه التواقيع نحو الترنم والإنشاد، لا بمعنى الإنشاد، بل بمعنى بعد آخر هو ذلك البعد من الصوت الفلسفي الخلاق، الباعث على تحريك ما هو جامد ومتصلب، نحو ليونة الكلمة وتأطيرها بنغم يسقط على أذن المتلقي، فيكون أسير ذلك البوح الخارج من ذاكرة وزمن وفضاء مصدره الشاعر. فالزمن في وحدته أو في بعد يقايسه، هو زمن لقصيدة جديدة ذات مواليد معاصرة ومبتكرة، جمعت وجودها ابتكار الشاعر لهذه التواقيع الخلاقة للتخيل والحلم معًا، بعيد عما يعرف في الفن من مدارس مثل: السيريالية، أو الواقعية، لأن ما يتصل بالروح تحيله الروح نحو ولادة أخرى، تحرك كل رواكد الثابت من الكلمة. فاللحن الإيقاعي لهذه التواقيع التي وفق في ابتكارها الشاعر الجنيبي، جعلت من قصيدته جوًا أكثر تعاطيًا لجسد سليم في القصيدة بعيدًا عما مطروح في الساحة الثقافية من النتاج الشعري. فالوحدة التكوينية التي جمعت الشعر بالتواقيع، هي وحدة إيقاعية، ذات أجنحة لاتنفك عن أساسيات اللحن والإيقاع المرن للشعر المعاصر. وكأني بطلال الجنيبي، قد أنشغل أول ما أنشغل باللحن والإيقاع، عبر كلمة شعرية خرجت من قريحته وهي ممسكة بآلة تُطربها حكاية ورقصًا، وسلامًا لحمام زاجلٍ ينقل رسائل طلال الشعرية إلى مدن ليست لها حدود في الخريطة العالمية، فيجول الشرق والغرب، والحكاية واحدة لإيقاع يراقص الشعر وشعر لا يعرف الفكاك من تواقيع عرائسه التي تنمو بنماء حلم الشاعر. هذه الرسائل الموقعة بصوته كتابة وإلقاء: هي بعد لفلسفة رأيت فيها الشاعر طلال الجنيبي واقعا بين السلم والمسالمة، لوطن أدرك عمق حبه فأهدى عصارة قلبه له، ألا وهو: الإمارات الإنسان والمكان عبر رسائله الأخيرة، قصائد للوطن ديوان «الإمارات في القلب» وكان الفارس الراحل المغفور له، رحمة الله عليه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فارس هذه التواقيع. وتبقى يا طلال بتواقيع حلمك، ذلك الجميل من الطيور التي لا تغادر وطنا ولا تهاجر معزا ومحبا. a.astrawi@gmail.com
مشاركة :