القرآن والحجاب - د. إبراهيم المطرودي

  • 1/7/2015
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

لا يُفارقني موقع بلادنا من خارطة العالم الإسلامي حين التفكير في القضايا التي تتزاحم أمامنا! موقع بلادي أعدّه ثابتا من ثوابت التفكير، وأساسا من أسس النظر في كل ما يجري حولي، ودوما ما يأخذ بي هذا الأساس إلى مخالفة التصورات المعلنة، وعدم الرضا عن كثير مما أسمعه هنا وهناك، وأنا واعٍ بأنّ هيمنة هذا الأمر ربّما قادتني إلى خلل في النتائج، وخطأ في بناء التصورات؛ لكنه، على كل حال، ثابت من ثوابت النظر عندي، وأراه حقيقا بهذه الصفة، وقميناً أن يكون إطارا من أطر التفكير في ثقافتنا؛ نحن أهل هذه البلاد. كُتِب علينا، نحن أهل هذه الديار، أن نكون القائمين على مدينتي الإسلام، مكة والمدينة، وهما مهوى أفئدة المسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها، فأصبحت بلادنا بوجود هاتين البقعتين مزارا للمسلمين، وقبلة لهم في صلاتهم، يقصدونها في اليوم خمس مرات، ويفدون إليها في حجهم وعمرتهم كُتِب علينا، نحن أهل هذه الديار، أن نكون القائمين على مدينتي الإسلام، مكة والمدينة، وهما مهوى أفئدة المسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها، فأصبحت بلادنا بوجود هاتين البقعتين مزارا للمسلمين، وقبلة لهم في صلاتهم، يقصدونها في اليوم خمس مرات، ويفدون إليها في حجهم وعمرتهم؛ هذا الموقع المركزي لبلادنا، وهي التي تدعو شعبها منذ مدة إلى الحوار والانفتاح، يدعوها أن تنفتح دينيا على المسلمين كافة، وتُجري حكمتها في الحوار والانفتاح الداخليين على أمم المسلمين، وتكون أهدأ المجتمعات المسلمة في خطابها الديني، وأكثرها قبولا بالمختلف، وإيمانا بحقه في الاختلاف؛ فهي الدولة الوحيدة في عالمنا الإسلامي التي تَقْدُمُ إليها ملايين البشر، المتخالفة في تصورها العقدي، والمتغايرة في مذهبها الفقهي؛ فإن لم تكن دولتنا هي أرحب الدول أفقا، وأوسعها مدى؛ فمن إذن يُنتظر منه أن يتولّى هذه المهمة الصعبة في دول المسلمين اليوم، من يُصَدّر ثقافة التسامح مع المخالف، ويزرع حقه باسم الدين، إذا لم يَقُمْ بهذا مَنْ يَضْطّره موقعه الجغرافي، ويُلزمه دوره الديني أن يستضيف المخالف، ويُقدّم له حق الضيافة؛ أيها القادة والعلماء والمفكرون والدعاة؟!. كلّما طفتُ ببيت الله تعالى، أو زرت مدينة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ أشعر أنني بنعمة كبرى، لا يعيشها في العالم الإسلامي غيري، وهي أنني الوحيد الذي كُتِب له أن يجتمع على أرضه المختلفون في الرأي، ويأتي إليه المتباينون في التفكير، ويقف بينهم مُتأملا اختلاف ألوانهم وهيئاتهم ومذاهبهم، ويأخذ الحزن بتلابيبي حين أرى ضيق التفكير في بعض رجالات الدين، وتغضب لغتي على تصرفاتهم، لا هم، ويذهب بي التفكير إلى أن هذا الضيق في التصورات الدينية من كفران هذه النعمة التي كتب ربنا لبلادنا أن تعيش لها، وتفخر بين الناس بالقيام بها؛ فأمثالي كان ينتظر من عامة رجال الدين أن يقفوا مع الانفتاح على المسلمين، ويكونوا سدّا منيعا أمام هذا التيار الهادر من تشويه المختلف، وسوء الظن به، وحشره مع أعداء الأمة، والمتربصين بها!. كان في مُكنتي أن أقف عند هذه القضية، وأزيد في بيانها، وأُنهي الحديث بها؛ لكنني رأيت ما جرى في مسألة الحجاب، وسِتر المسلمة، من خلاف؛ دفع بعضهم إلى أن يقولوا: إن إثارة هذه القضية يقف خلفها الأعداء، ويتولّى كِبرها من يريد إفساد الأمة، وتغيير ثقافتها! فأيقنت حينها أن الخطاب الذي سيقف في وجه هذه الثقافة التي غلب على أهلها التشدد، حتى نسيت جماهير المسلمين، المخالفين لها في قضية الساعة، ويُخفف من أثرها على الوعي؛ لا بدّ أن يأخذ مسارين جادين؛ الأول يُتناوَلُ فيه النص الديني، ويُفحص مراد الله تعالى ورسوله عليه الصلاة، والمسار الثاني يتم التأكيد فيه على ما صدّرت به المقالة؛ وهو أن المسلمين ينتظرون من دولتنا أن تكون رمزا لهم في الانفتاح على المخالف، والترحيب به، ولا يتوقعون منها أن تُصحح لهم مذاهبهم، وتسعى في تغيير ما ورثوه، وهي التي آمنت أن الحوار والانفتاح والتعايش بين أفراد شعبها هو طريقها إلى التقدم، ونافذتها إلى العزة والمنعة. وإذا كان المسار الثاني ما افتتحت به المقالة؛ فإني آثرت أن أكتب، مستمدا العون من ربي، ثلاثة مقالات عن النص الديني، قرآناً وسنة، وما ارتبط بهما من علوم، أجعل أولها حول القرآن والحجاب، وثانيها حول الحجاب والسنة، وثالثها حول الحجاب والفقه في مذاهبه الإسلامية المختلفة، وسعيتُ جهدي أن أجعلها سهلة المأخذ، واضحة العبارة، بيّنة في فكرتها، وهذا أوان الحديث عن آيات القرآن الكريم التي ورد فيها الحجاب. آيات الحجاب في كتاب الله تعالى ثلاث؛ أولهن الآية التي نزلت في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قوله في سورة الأحزاب :(ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا، ولا مستئنسين لحديث ... وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن). وثانيهن قوله في السورة نفسها: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يُؤذن) وثالثهن قوله في سورة النور: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخُمُرهن على جيوبهن). لم أكن مهتما كثيرا بقضية الحجاب حين بدأ الجدل الأخير فيها، مع أنني بحثتها، وقرأت كثيرا من أجلها قبل ما يقرب من ثلاث وعشرين سنة، حين أثارها الألباني، وتصدّى له المتشددون، وقالوا فيه كلاما لا يختلف عمّا يقوله بعض المتأخرين اليوم؛ من اتهام للمخالفين بالجهل، وسوء القصد، وتشكيك في الغاية؛ لكنني حين رأيتُ وسمعتُ من يسعى جهده أن يُظهر قضية الحجاب مسألة محسومة، لم يختلف فيها المسلمون قديما، ولم يقولوا فيها، حسب ظنه، بغير وجوب ستر جسد المسلمة كله، ودفع به رأيه إلى ادّعاء أنّ ما يقوله المجوّزون لكشف الوجه والكفين، ويأخذ به جماهير المسلمين اليوم؛ فهو خطأ في فهمهم، وخلل في تصورهم لنصوص الدين، وأقوال أئمتهم؛ حين رأيت هذه الجرأة أحببت أن أقف في وجه هذا الجهل المتلبس بالعلم، وأن أكشف للقارئ المهتم بهذه القضية، عن أنّ التطرف في الرأي، والإعجاب به، وإن كان ضعيفا واهنا؛ هو الذي يقود إلى اتهام المخالف، والطعن فيه، والتجريم لمقصده، وأن محاولة هؤلاء في إظهار مسألة الحجاب قضية، قُضي فيها الأمر، ولم يعد فيها قول، يُراد من ورائه التسويغ للطعن في المخالف، وتهيئة الناس للقبول بسبّه، والاتهام لنيته؛ فهو حسب زعمهم المخالف لصريح القرآن، والمناوئ لأحاديث خير الأنام، والمخطئ في فهم نصوص أئمة المذاهب؛ لكن من يقرأ آيات الكتاب، ويتأمل الأحاديث، ويقف على مذاهب الفقهاء الأولين، ويدع مقلدة هذا العصر، المتظاهرين بما ليس عندهم؛ يدركُ عندي أن هذا هو الظلم، وذاك هو التعدي على حقوق المسلمين في اختلاف مذاهبهم، وتباين نظراتهم، ويدرك أن من يقوم بهذا الدور في تسفيه رأي جماهير فقهاء الأمة، على حد قول ابن بطال، المتقدم في المقال السابق، وقول ابن عبد البر:" واختلف التابعون فيها أيضا على هذين القولين (يقصد قوله تعالى (إلا ما ظهر منها)، وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء في هذا الباب، فهذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها" (التهميد 6/ 369)، وقول ابن كثير:" ويُحتمل أن ابن عباس، ومن تابعه، أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويُستأنس له بالحديث..." (تفسير القرآن العظيم 3/ 454). هذه الأقوال قادتني إلى قراءة الآيات من جديد؛ إذ من غير المستساغ أن يكون جماهير الفقهاء وجماعتهم على جواز إخراج الوجه والكفين، ويرفض مقلدة هذا العصر المتعالمون أن يكون لرأيهم مستند من كتاب الله تعالى، وحجة فيه، فكانت أولى القضايا التي تتطلب حسما في قراءة آيات كتاب الله هو تحديد زمن نزولها على رسول الله، وخرجت بعد تأمل أن آية الجلابيب كانت هي الأولى نزولا، وأن آية حجاب أمهات المؤمنين كانت هي الثانية، وإن كان ترتيبها في المصحف قبل آية الجلابيب، وآخر هذه الآيات الثلاث نزولا هي آية سورة النور، ولي على هذا الرأي الأدلة التالية: أولا أنّ الطبري قال في تفسير آية الجلابيب:" يا أيها النبي قل لأزواجك، وبناتك، ونساء المؤمنين، لا يتشبّهن بالإماء في لباسهن، إذا هُنّ خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوهن" ( جامع البيان 19/ 181) وكشفُ أمهات المؤمنين لشعورهن ووجوهن لا يُمكن أن يقع بعد نزول آية الحجاب، وهي الآية التي أوجبت عليهن أن يستترن في دورهن وغيرها؛ ما يدفع إلى القطع بأن آية الحجاب، وإن تقدّمت في ترتيب آيات سورة الأحزاب؛ إلا أنها نزلت متأخرة عن آية الجلابيب. وثانيا أن أنس بن مالك، وهو الخبير بشؤون البيت النبوي، روى عنه الطبري (19/ 162_ 165) أربعة آثار في سبب نزول آية الحجاب؛ وكلهن يدرن حول قصة زواج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأمنا زينب بنت جحش، رضي الله عنها، وقد كان زواجها في السنة الخامسة من الهجرة. وثالثا أن الطبري حكى بسنده حين تفسير آية الجلابيب (19/ 183) عن أبي صالح قوله:" قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على غير منزل، فكان نساؤه صلى الله عليه وسلم وغيرهن إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهن، وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل، فأنزل الله.... حتى تُعرف الأمة من الحرة". هذه المقدمة في ترتيب نزول الآيات ضرورة لفهمها، وإدراك معانيها، ومقاصد الشارع منها، وهو ما سأحاول الكشف عنه في المقال القادم، إن شاء الله، على أني لم أهدف من كتابتي في الحجاب أن أُفتي الناس فيه، وأدعوهم إلى رأيي؛ بل غايتي من الكتابة تبيان قوة رأي القائلين من أئمة السلف بكشف الوجه، وإبداء الكفين، وأنهم لم يكونوا كما ادّعى بعض المعاصرين عليهم، وجهّل العلماء الآخذين منهم، وعدّهم مخطئين في النقل عنهم! ولأبيّن أن من ينهج طريق هؤلاء الأئمة فلا يجوز لأحد أن يُسفهه، ويُشكك في قصده، بل أذهب إلى أبعد من هذا، وأقول: إن التسفيه والتشكيك قمِنٌ به هذا المتعالم الصغير، الذي زبّب قبل أن يحصرم؛ لأنه يُحاول بجهله طمس الخلاف القديم؛ ليفتح للناس باب التشكيك في المخالفين، ويُشرع لهم طريق تنقصهم، ويسوّغ بهذا وصمهم بالنفاق، والعمالة للأعداء!.

مشاركة :