القرآن والعشائر المعرفية - إبراهيم بن سليمان المطرودي

  • 2/19/2014
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

مما رواه ابن عبد البر رحمه الله في كتابه "بهجة المجالس وأنس المجالس" (1/ 43) قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه :" من أراد أن يكثرَ علمُه، فليجالس غير عشيرته"، وما دامت الجملة في سياق الحديث عن العلم، وتحصيله، فأنا أميل إلى أن قول أبي أيوب يصدق على علاقة المسلم بالمذاهب المسلمة الأخرى، فتكون المذاهب وأهلها، والمناهج وصناعها، عشيرة معرفية، يتحتم على من يحرص على العلم، ويسعى في طلبه، أن يُجالس غير عشيرته المعرفية؛ فتلك العشائر المعرفية تُقدّم طرائق تفكير، وسبل نظر، وليست تحشو الأذهان بمجموعة من القضايا فقط؛ كما هي حال العشيرة المعرفية التي ينشأ الإنسان منذ صباه على طريقة تفكيرها، وسنن نظرها في النص والحياة، فتشغله بضخامة جزئياتها عن التفكير في أساسها، والتأمل في قالبها. والسر في هذه الدعوة أنها تكشف للإنسان اختلاف العشائر في طرائق التفكير، ومناهج الفهم، فيدرك حينها أن العلم ليس أن يجمع كمّاً هائلاً من المعارف الجزئية، تُغذيه بها عشيرته التي كُتب عليه أن يعيش في كنفها، ويتقلّب قدراً في أحضانها، بل العلم هو أن يتعرف قدر طاقته على مناهج جديدة، تفتح له سبل التحصيل، وتُري عينيه ما لم يريا، وتعود على عقله بالاتساع، وأحسب هذا المعنى مراداً في قوله تعالى : (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) بل هو أقرب المعاني عندي؛ لأنّ التعارف المعرفي، والسعي في طلب الحكمة، ركيزة أساسية، لا يُمكن الاستغناء عنها؛ على حين يستطيع الإنسان أن يستغني عن كثير من التعارف الحسي، بل هو مضطر إلى الحد منه، وإلا فلن يستطيع القيام بشأن نفسه! يتحتم على من يحرص على العلم، ويسعى في طلبه، أن يُجالس غير عشيرته المعرفية؛ فتلك العشائر المعرفية تُقدّم طرائق تفكير، وسبل نظر، وليست تحشو الأذهان بمجموعة من القضايا فقط في الحديث الماضي عن آية الفاتحة كنت أسعى لأمرين معا؛ أولهما إظهار أن الالتزام الحرفي بالروايات، الورادة في تفسير الآية بأمتي اليهود والنصارى، يرفضه النص الديني نفسه، ويجعلنا أمام تعارض نصي، يغفل عنه راوي تلك الروايات، وتدفعه غفلته إلى تفسير الآية بها وحدها؛ كما فعل السيوطي في "تفسير الجلالين" الموجز. وثاني الأمرين هو إظهار أن هناك علماء، ممن يرتضيهم المخالف، قد نظروا إلى الآية من خلال أفق أوسع من الرواية، وإن بقوا يذكرون هاتين الأمتين بإطلاق دون تقييد، وهكذا يجتمع على هذه الروايات أمران، يُفسدان أن يظل ما تحملانه من معنى مكتوباً في كتب التفسير الحديث، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يُسبّ أبو جهل؛ لأن في ذلك أذية لعكرمة؛ كما في المستدرك للحاكم:" فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت" فماذا نصنع نحن اليوم بما يؤذي أمتين، لا دخل لهما بما كان عليه بعض آبائهما؟ بل لماذا لم نُظهر الآيات التي تُثني على أهل الكتاب، وتحمد حالهم، وترفع من أقدارهم، فنقول لأهل هذا العصر: هذا حديث القرآن عن آبائكم وأجدادكم الأولين؛ فالله تعالى يقول (آل عمران 113) :( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) ويقول عنهم أيضاً في آخر هذه السورة:( وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل إليكم وما أُنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب)؟. لقد عرفت أن عشيرتي التي نشأت في أخضانها، وغُذيت بمعارفها، لم تملك وإن سعت جهدها الحق، هي تريد ذلك وتبغيه؛ لكن ما كل مريد للحق مدركه في كل شأن؛ فصرت أرى لزاماً على نفسي أن تطّلع على ما عند غيرنا من العشائر المعرفية؛ فالنص ملك الجميع، والله تعالى يُؤتي الحكمة من يشاء، فكان من هذا أنني يممت شطر تفسيري الزمخشري والفخر الرازي رحمهما الله أستجلي ما يقولانه حول هذه الآية الكريمة، فوجدت الأول يقول (الكشاف 1/ 11) عن قوله تعالى (غير المغضوب عليهم):" بدل من (الذين أنعمت عليهم) على معنى: أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب الله والضلال... وقيل هكذا بصيغة التمريض : المغضوب عليهم هم اليهود.... والضالون هم النصارى"، ومراد الزمخشري أن معنى الآية على الأول كقولك: أحب المجتهد غير البليد؛ فأنت لا تقصد ب:"غير البليد" إلا أن يكون بدلاً من المجتهد أو صفة له (تابعا له)، ولم ترد أن تشير به إلى فرد معين، أو جماعة معينة، وحتى يظهر المعنى تخيل نفسك تُخاطب بهذا طلابك، أو العاملين تحت يديك؛ فمع أن فيهم البليد إلا أن أحداً لا يستطيع أن يقول: إنك تريد فلاناً أو فلاناً؛ فأنت تتحدث عن الفرد الذي تريد، وتزيد بالتوابع من إيضاحه، وتبيان حاله. (ولئلا أظلم الطبري رحمه الله فهذا ما فهمته من كلامه؛ لكنه أفسد هذا المعنى بسؤاله الذي سلف أن ذكرته لكم في المقال السابق، وسقت لكم إجابته عنه). وبعد الزمخشري رحمه الله عُدتُ إلى "التفسير الكبير" ( 1/ 261) للإمام الفخر الرازي هكذا كُتب على تفسيره فوجدته يقول:" الفائدة الأولى: المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود؛ لقوله تعالى (من لعنه الله وغضب عليه). و"الضالين" هم النصارى؛ لقوله تعالى :( قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)، وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة، وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل...". ومع كل ما تقدم فالأقرب الآن عندي في فهم هذه الآية الكريمة ما أومأ إليه الزمخشري رحمه الله وهو أنّ (المغضوب عليهم) و(الضالين) لفظان تابعان ل(الذين أنعمت عليهم)، ومن ثمّ فليس المراد بهما شيئاً آخر غير الإتباع له، وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة: اهدنا صراط المنعم عليهم، الذين لم يجترحوا ما يُغضب الله تعالى ، ولم يقعوا في سبب من أسباب الضلال، وهكذا تبقى الآية على عمومها، وعدم تقييدها، فتدخل فيها جميع أسباب الغضب، وكل صور الضلال، وتصبح مثل قولي: يُعجبني الصادق غيرُ الكاذب، ولا الخؤون؛ إذ المعنى حينها: يعجبني الصادق الذي لا يكذب، والذي لا يخون؛ فأنا في جملتي أريد الإطلاق في صور الكذب كلها، وأمثلة الخيانة جمعاء. والذي جعل بعض المفسرين يُخرجون الآية مخرج ما جاء لتحديد المغضوب عليهم، وتعيين الضالين، هو نظرهم إليها، بعيداً عن السياق الذي وردت فيه، وهو الحديث عن المنعم عليهم، فاقتطعوها عما قبلها، وفصلوها عن متبوعها، وصار المعنى: صراط المنعم عليهم، غير اليهود، وغير النصارى، وحين شعر بعضهم بالحرج من أنّ الغضب صفة يقع فيها غير اليهود، والضلال صفة يأيتها غير النصارى، لجأ إلى الإلحاق بهاتين الأمتين، وهو لو فطن للسياق نفسه، ما أوقع نفسه في تحديد دلالة الآية بالرواية، ثم الخروج على تلك الرواية نفسها بالتأويل! ولبدأ من الآية المحكمة، وما تدل عليه، ثم فهم بعد ذلك تلك الروايات على أنها إن صحت حديث عن طائفة من تلك الأمتين، وهي طائفة لها وجود في جميع الأمم، وليست بمقصورة عليهما؛ لكن هيمنة الرواية أفقدته التفكير في الآية! فحمل الآية على ما سبق إلى ذهنه منها، وقرأها من خلال ما قرّ في يديه من الرواية، وبعد أن تفكّر في الثوب الذي نسجه من الرواية للآية، أدرك أن الآية أوسع معنى، وأبعد عن فهمه منتجعاً، فراح يُرقّع الثوب، ويرفأُ الهمل، وهو لو عاد للآية أولاً، ونظر في سياقها قبلاً؛ لسلمت له، ووضع الرواية في موضعها؛ لكن الرواية قادت ذهنه أولاً، وأفسدت عليه معنى الآية ثانيا! فتمثّل أمامه تعارض بينهما، ما كان ينبغي له أن يسمح به، ويُتيح للرواية أن تُشكله، وستظل الغفلة عن السياق عند الناس مدخلاً من أهم مداخل إعادة قراءة النص الديني؛ وإن كان بعض أهل هذا العصر يرفض هذه الفكرة، ويعد إعادة القراءة بدعة، تجب محاربتها، والشين لدعاتها! فهي رغم قوله ستظل السبيل الأنجع إلى التجديد الديني الذي ينشده المسلمون اليوم، وتدعوهم ظروفهم إليه؛ فرعاية السياق في النص، والإصغاء له، تدعونا إلى النظر إلى الآخرين من خلال تمثيل هذه الحكمة، فنحن اليوم نبحث جميعاً عمن يُمثل السياق الديني الأعظم، وليس من يهتم بالقضايا الجزئية، واهتمامنا بالسياق يُجبرنا على الانفتاح؛ لأن الوعي بالسياق عسير، والكشف عنه صعب، وكثير من الإعجاز القرآني يكمن في دراسة السياق، ويُكشف عنه به.

مشاركة :