عام 1971، كانت السينما الجزائرية مرتاحة لأفلامها التي لا تتوقف عن تمجيد «ثورة المليون شهيد»، سامحة بين الحين والآخر لبعض «القناصة المشاكسين»، من أبناء العائلة (الوطن) بالطبع بأن ينتقدوا هذه السمة أو تلك من «الهنات» التي صاحبت الاستقلال أو حدثت خلال الثورة («نوة» لعبد العزيز الطلبي، أو «الفحام» لمحمد بوعماري على سبيل المثال). وكانت السينما الجزائرية وصلت قبل ذلك بعام إلى أعلى ذرى المجد السينمائي الذي يمكن أن تصل اإليه سينما من العالم الثالث الذي كانت الجزائر تتزعمه فنياً وفكرياً على الأقل، حين نال محمد الاخضر حامينا «السعفة الذهبية» في دورة عام 1975 لمهرجان «كان» السينمائي. تلك الجائزة التي يتطلع اليها كبار سينمائيي العالم، وبالتحديد عن فيلمه «وقائع سنوات الجمر». إذاً، وسط ذلك الاستقرار المجيد والممجّد، فرقع مخرج شاب بالكاد كان يعرفه أحد خارج الجزائر، وحتى داخلها، قنبلة كان اسمها صعباً على التلفظ في أي حال: «عمر قتلته الراجلة». طبعاً سرعان ما فهمنا أن العنوان يعني بلهجة الجزائر العاصمة، مسقط رأس المخرج مرزاق علواش، أن عمر بطل الفيلم قتلته رجولته وملاحقته الدائبة للنساء. لكن الفيلم لم يكن تحديداً عن مطاردة النساء في شوارع العاصمة الموقّرة. كما أن عمر ليس، كما اعتاد أبطال الأفلام الاولى للمخرجين الشبان أن يكونوا، الأنا/ الآخر للمخرج الذي كتب السيناريو بنفسه. لو كان كذلك لما كان من شأن الفيلم أن يحدث تلك الثورة الهائلة التي أحدثها في السينما الجزائرية، ولما كان من شأنه أن يحقق النجاح المدهش الذي حققه على الصعيد النقدي والجماهيري. هو حقق ذلك كله، لأنه جرؤ على قول ما لم يكن ممكناً قوله: ليست أمور الشباب على أحسن ما يكون في بلد الثورة المظفرة. وإن هذا الجيل الطالع لم يعد راضياً بأن يُهمّش ويضحى به، لمصلحة الجيل السابق الذي يبدو أنه سيكون له دائماً كل شيء: جيل الثوار. الرجل الذي قلب المعادلات في تسعين دقيقة إذاً، قلب «عمر قتلته» (هكذا بات اسمه اختصاراً) كل المعادلات التي قامت عليها السينما الجزائرية، واختصر كل ما سوف يحدث لاحقاً في الجزائر. ليس بصيغة تنبؤية، بل بصيغة توقعية. أتى الفيلم ليقول ان كل شيء ظاهر للعيان، وليس على المهتمين أن يغوصوا عميقاً ليدركوا ماذا يحدث في هذا البلد. أتى ليقول إن دفن الرؤوس في الرمال لم يعد مجدياً... ونعرف بقية الحكاية، على الصعيدين السياسي والاجتماعي. وحتى لو ان علواش سيواصل دق أجراس الانذار، جرساً وراء الآخر وفيلماً بعد الآخر، فإن من غير الانصاف أن نتعامل مع افلامه، منذ «عمر قتلته» وحتى نتاجاته الاخيرة على انها بيانات سياسية. فالحال أن مخرجين كبار من طينة الفرنسي بارتليمي آمنغوال، التقطوا منذ «عمر قتلته» نسغ سينما ذاك الذي كان بالكاد تجاوز يومها الثلاثين من عمره. فقال هذا المنظّر والناقد السينمائي الكبير: «ان علواش الذي كتب سيناريو وحوار فيلمه بنفسه، يمارس قوته البصرية وتفكيره حول الصورة، ومن هنا فإن عدداً لا بأس به من مشاهد فيلمه تنتمي إلى ما يكاد يكون وثائقياً، ليحدثنا عما يعتمل داخل المجتمع الجزائري من عيوب (فنشاهد بأم العين التعايش والإفراط في الإنجاب والملل وهزالة العيش)، كما أن الصوت عنده يشتغل بدوره مساهماً في صناعة المحتوى (الموسيقى الشعبية، الموسيقى الهندية، الاستعراض، السينما، المسرح، احتفالات الزواج)، كما أنه يشتغل على اللغة...». مسيرة تواصلت بدأب والحقيقة أن ما شخّصه أمنغوال هنا، لمناسبة حديثه عن «عمر قتلته»، ظل سائداً في أفلام علواش التالية، والتي نادراً ما خرجت، في أي حال، عن نسغ الاحتجاج الاجتماعي، والظهور كأنها تنتمي اإلى سينما راهنة، تتابع ما يحدث في الجزائر، وربما خارجها أيضاً، عبر نظرة مخرج يعتبر نفسه، من ناحية، معنياً بما يحدث في بلاده، عارفاً أن الصورة والصوت هما سلاحه للتعبير عن ذلك، ومن ناحية ثانية بوظيفة الفنان في أن يبدع ويجدد في الأشكال السينمائية بمقدار ما يمعن تحقيقاً في الأفلام. ففي الأحوال كافة، سرعان ما تبين لعالم السينما أن مرزاق علواش لم يأت من عدم يتيه في بيئة صحراوية، بل هو ابن ذلك الجيل الذي كاد يكون مسحوقاً بين جيل الثورة وجيل مستقبل سنوات الرصاص. فهو كما أشرنا ولد وترعرع في الجزائر العاصمة وقطع دراساته الثانوية باكراً كي يتسجل في المعهد الوطني للسينما في العام 1964، ليحقق بعد ذلك فيلمين قصيرين من مقاس 16 ملم: «السارق» (فيلم التخرج) والفيلم الذاتي الصامت «فكرة حميمة». وهو توجه عام 1967 إلى باريس لإمضاء فترة تدرب نال بعدها دبلوم الاخراج من الايديك. وسيعود إلى باريس مرة أخرى عام 1968 ليتدرب عملياً على العمل التلفزيوني. وحين عاد من جديد إلى الجزائر عام 1971، التحق بمنصب في وزارة الاعلام والثقافة. وإذ كُلف حينها بنشر أفكار وممارسات نوادي السينما، قيّض له عام 1974 أن يعمل مساعداً لسليم رياض في فيلم «ريح الجنوب». وفي العام التالي نراه ينضم الى «الاونسيك» (جهاز السينما التابع للحكومة الجزائرية) بصفة مخرج. وضمن هذا الإطار حقق عام 1976، فيلمه الروائي الطويل الأول، الذي اختير ليعرض في أسبوع النقاد في مهرجان «كان» في العام ذاته. ونعرف طبعاً أن علواش لم ينم على حرير بنجاح فيلمه الأول. ولا خاصة على التجديدات في الموضوع والأشكال السينمائية التي وسمت ذلك الفيلم. وهكذا شاهدنا له، عام 1978 «مغامرات بطل» الذي، على خطى «كانديد» فولتير، على سبيل المثال، بدا جريئاً في لجوئه إلى شكل سينمائي بيكاري، يعتمد السخرية والتغريب، كي يقول، ولكن هذه المرة بلغة سينمائية تكاد تنتمي إلى فن المقامات المعروف في الأدب العربي الكلاسيكي، كل المساوئ التي تعيشها المجتعات التي تعني مخرجه، ولكن خاصة لعبة اختراع الابطال الممارسة في العديد من المجتمعات المتخلفة وغير المتخلفة. مهما يكن فإن علواش قال معلقاً على هذا الفيلم، انه شرع في العمل عليه «دون ان أعرف منذ البداية كيف سيكون شكله. بالنسبة إلى «عمر قتلته» كنت قد انطلقت من بحث أتاح لي أن أصنع تركيب قصة الفيلم. أما «مغامرات بطل» فقد انطلق من قصة قصيرة حولتها بالتدريج إلى مسيرة متكاملة من المغامرات والصور. لكنني منذ البداية كنت أريد التحدث عن مسألة الرومانسية الثورية (...). وقررت بيني وبين نفسي إيجاد صيغة أدبية تشبه الف ليلة وليلة. وكان من الواضح بالنسبة إلي أنني – للحديث عن الرومانسية – يجب أن أتسلل إلى داخل الشخصية الرئيسية مختاراً أسلوب الغرائبية للتحدث عن خيالات البطل وهلوساته». نحو تراكم مدهش بعد «مغامرات بطل» لم يتوقف مرزاق علواش عن تحقيق فيلم جديد مرة كل ثلاثة أو أربعة أعوام، بحيث تراكمت له حتى الآن، واحدة من أغنى الفيلموغرافيات في تاريخ السينما الجزائرية. ولكن، لئن كان نسغه قد ضعف، ومقابل نجاح جماهيري مؤكد في افلام تالية له مثل «الرجل الذي كان يشاهد النوافذ» (1982)، و «حب في باريس» (1986)، فإنه عاد عام 1994 وفي فيلمه «حومة باب الواد» ليفجر قنبلة جديدة، ولكن هذه المرة في وجه الأصوليين الذين، في سياق الأحداث العنيفة التي عرفتها الجزائر حينها، راحوا يغزون المجتمع الجزائري بالتوازي مع أعمالهم العسكرية الارهابية (سنوات الرصاص). ولقد كلفه هذا الفيلم، كما حال بطله، أن يذهب ليعيش في الخارج حيث حقق في باريس عام 1996 «سلاما يا ابن العم» الذي تمكن مشاهدته كما لو أنه متابعة لبطل «حومة باب الواد» بعد هربه من حيه الشعبي الجزائري إلى فرنسا. وهو إذ حقق تالياً، عملين للتلفزة أحدهما في بيروت «الجزائر – بيروت»، فإنه عاد إلى السينما عام 2001 ليحقق «العالم الآخر» ثم «شوشو» (في العام 2003) وهو هزلي اجتماعي من تمثيل جاد المالح لم يضف شيئاً الى سينما علواش، وكذلك كان حال «باب الدرب» عام 2005. وكان ذلك قبل أن يعود مجدداً إلى مواضيعه الراهنة، كما في «حراقة» عن تسلل الشبان الأفارقة سراً إلى أوروبا وغرقهم في البحر. وهو منذ حقق هذا الفيلم عام 2009، رفع سرعة وتيرة تحقيقه أفلامه ليحقق «تاتا بختا» (2010) و»نورمال!» (2011) قبل أن يعود إلى المواضيع الحارقة وتحديداً إلى سنوات الرصاص في عمل قوي جديد له هو «التائب» الذي عرض العام 2012، في أسبوعي النقاد في مهرجان «كان»، ليتلوه عام 2013 بفيلم «السطوح» الذي حقق نجاحات لا بأس بها في عدد من المهرجانات السينمائية العربية... وصولاً إلى «الأم كوراج» ومن ثم إلى عمله الأخير حتى الآن «ريح ربّاني». * بتصرّف عن المدخل المكرّس للمخرج في كتاب «السينما والمجتمع في الوطن العربي: القاموس النقدي للمخرجين» الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» - 2018
مشاركة :