أمام لهفة السياح على زيارة الأماكن الفريدة وتزايد عددهم صارت بعض المدن والقرى التي تحتفظ بطابعها الخاص تمتعض من تزايد عدد السياح وانتشار البضائع التذكارية الرخيصة، والبندقية خير مثال على مخاوف أهلها على جزيرتهم العائمة، حي مونمارتر الباريسي الذي يعتبر من أفضل عشرة مواقع في فرنسا صار أهله يخشون من أن يخسروا رونقه وخصوصيته التي تحافظ على كل ما هو قديم. باريس – يحاول حي مونمارتر الباريسي أن يحافظ على طابعه الخاص صامدا أمام موجة السياحة الكثيفة والتذكارات الرخيصة، فيما يتوافد إليه 12 مليون زائر سنويا وترتفع فيه الإيجارات بشكل سريع ويواجه فنانوه منافسة صينية. ويعتبر الحي بساحة رساميه وكنيسته ومقاهيه ومتاحفه الصغيرة، من الأماكن العشرة الأولى الأكثر زيارة في فرنسا، كما توجد فيه بعض أشهر معالم باريس السياحية مثل طاحونة لاكاليت وهي طاحونة قمح ومعصرة عنب للخمر. ويتميز الحي بجماله التاريخي الذي يحظى بشعبية كبيرة في باريس ويعد مقصدا سياحيا جذابا لكل الزائرين من جميع أنحاء العالم. وفي قاعة منخفضة ومعتمة يستمتع سياح روس وكنديون وأستراليون مع بعض الفرنسيين بالنظر بإمعان إلى فنانين يؤدون أعمالا كلاسيكية من دون مذياع على آلة بيانو قديمة، فلم يتغير شيء تقريبا في حانة “لابان أجيل” منذ العام 1860. ويقول صاحبه إيف ماتيو بفخر “إنه آخر كباريه تقليدي” في مونمارتر. وعلى غرار والدته التي كانت تغني اعتبارا من العام 1938، يغني هذا الرجل في هذا المبنى الصغير المحاط بالأشجار والواقع على تلة مونمارتر على مسافة قريبة جدا من كرمتها، ما يذكّر بأن هذا الحي الباريسي كان في ما مضى قرية قريبة من العاصمة. وكانت هذه الحانة ملتقى الرسامين الذين اختاروا الإقامة في مونمارتر في نهاية القرن التاسع عشر. وكان فنانو الرسم هؤلاء يدفعون أحيانا الفاتورة بلوحات لعدم توافر المال لديهم، كما تشهد على ذلك نسختان لعملين لبيكاسو وتولوز-لوتريك قدما إلى الكباريه. وانطلق مغنون كثر من هذا المكان من أمثال شارل أزنافور وجورج براسنس وليو فيريه جاعلين من الكباريه “معهدا للأغنية الفرنسية” وحارسا لمونمارتر القديمة. ويقول إيف ماتيو بفخر “أنا في التسعين ومستمر في الغناء”، فيما لا يزال صوته القوي يملأ المكان. ويضيف “أبنائي قبلوا بمواصلة المغامرة وينبغي الصمود”. شارل أزنافور وجورج براسنس وليو فيريه مروا على حانة لابيل أجيل جاعلين منها معهدا للأغنية ويتابع “يقاوم هذا الكباريه بصعوبة اجتياح السياح”، مؤكدا أن ذلك أحدث تحولا كبيرا في قلب الحي الواقع في أعلى تلة في باريس. وقبالة مقهى “ستارباكس” بسطات لتذكارات باريسية لكنها تنتشر على الأرصفة وتنافس البضائع الفرنسية المعروضة أيضا على السياح الذين يتوقفون لالتقاط صورة سيلفي. ويحن كثيرون إلى أجواء القرية الصغيرة التي كانت تطغى على الحي والتنزه في “لاليه دو برويار” أو “ممر الضباب”. وترتفع هضبة مونمارتر 130 مترا عن سطح البحر، وتطلّ بروعة على أبنية باريس ذات المعمار الأوسماني، نسبة إلى المعماري الفرنسي البارون جورج أوجين أوسمان الشهير، الذي أعاد رسم وجه باريس خلال حقبة الـ”أمبير” الثانية إثر الثورة الفرنسيّة. وفي ذاكرة الهضبة مرور المغنيّة الراحلة داليدا، التي اختارت الإقامة في هذا المكان، حيث اشترت بيتا، ومن نوافذه كانت تستمع إلى عازفي الموسيقى في الساحة التي باتت تحمل اسمها اليوم. ولحقت هضبة مونمارتر بباريس سنة 1860، بعد أن كانت بلدية مستقلّة تحمل اسم “مارت”، وهي كلمة فرنسيّة قديمة تعني “الشهيد”، وقد أطلقت على المكان تكريما للشهيد سان دونيه الذي قُتل خلال الحروب الدينيّة في العهد الملكي الفرنسي. وتروي الأسطورة أن سان دونيه حمل رأسه بيديه، بعد أن قُطع، ومشى لستّة كيلومترات، إلى أن التقى براهبة فأعطاها إيّاه ووقع ميتا عند قدميها. ودُفن في المكان الذي بني فيه لاحقا صرح “سان دونيه” الديني. ويعود تاريخ بناء بعض أقدم المنازل التي لا تزال قائمة في حيّ “مونمارتر” إلى القرن الثامن عشر. ويقول ألان كوكار رئيس جمهورية مونمارتر “لم يصل الوضع هنا إلى ما هو عليه في البندقية (تستقبل 24 مليون زائر في السنة). لا يزال بالإمكان إنقاذ بعض الأمور”. وأسست “جمهورية مونمارتر” العام 1921 بهدف مواجهة مشروع عقاري وهي لا تتمتع بأي صلاحيات رسمية، لكنها تنصب نفسها حامية للتقاليد. رئيسها يعتمر قبعة سوداء ويضع وشاحا أحمر تكريما للشاعر والمغني أريستيد بروان الذي جعل من مونمارتر مقصدا شعبيا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهو يستقبل الناس في “مقر” الجمهورية أي مطعم “لا بون فرانكيت” حيث رسم فان غوخ لوحته الشهيرة “لا غينغينت” (الحانة الشعبية).
مشاركة :