بقدر ما استحقت الكاتبة الأيرلندية الشمالية آنا بيرنز جائزة مان بوكر لهذا العام وهي أهم جائزة للإبداع الروائي المكتوب بالإنجليزية فإنها تستحق أيضا التقدير لشجاعتها في الاعتراف والإفصاح عن قسوة مكابداتها في الحياة. والقيمة المادية لجائزة المان بوكر التي تبلغ 50 ألف جنيه إسترليني وأن اعتبرها البعض ليست بالكبيرة بالنسبة لأهم جائزة أدبية للإبداع المكتوب بالإنجليزية إلا أنها تمثل "ثروة لآنا بيرنز التي كشفت النقاب بشجاعة في حوار صحفي عن أنها لم تكن تجد ما تأكله أحيانا أثناء كتابة رواية بائع الحليب التي نالت بها مؤخرا جائزة مان بوكر.ومن هنا حق لآنا بيرنز أن تصف فوزها بجائزة مان بوكر "بالهبة العظيمة والهدية الرائعة"، فيما اعتبرت أن هذه الجائزة "ستغير حياتها"، مضيفة بطرافة في مقابلة صحفية مع جريدة الجارديان البريطانية "أنه شعور جميل أن أشعر الآن بأنني موسرة". وإذا كانت القيمة المادية لجائزة مان بوكر أضفت كل هذه السعادة في نفس أديبة صاحبة أسلوب لغوي شفاف وشكلت لها "واحة تمكنها من الوفاء بالتزاماتها المادية الملحة" فإن القيمة المعنوية لهذه الجائزة كبيرة ومهمة للغاية بما ماتنطوي عليه من شهرة لصاحبها ومبيعات عالية لروايته الفائزة بل أنها تكون أحيانا "الباب الملكي نحو أم الجوائز الأدبية العالمية" آلا وهي جائزة نوبل التي حجبت هذا العام بعد أن طالتها فضائح أفضت لتأجيلها للعام القادم.ورواية "بائع الحليب" التي تتناول العلاقة بين فتاة ورجل كبير متزوج تعكس على نحو ما الأجواء النفسية المضطربة التي عانى منها المجتمع الأيرلندي الشمالي من قبل، فيما رأى المحكمون الذين قرروا منحها جائزة مان بوكر أن هذه الرواية "رائعة بمعنى الكلمة ويتجلى فيها نسيج اللغة".وإذ وصفت آنا بيرنز فوزها بجائزة مان بوكر هذا العام "بالحلم الجميل الذي تحقق" فان هذه المبدعة الأيرلندية الشمالية تتحلى حقا بالشجاعة وتمثل صوتا جديدا في "أدب الاعتراف" عندما تحدثت بكل الصراحة عن أوضاعها البائسة قبل فوزها بهذه الجائزة عن رواية رفض لفيف من الناشرين نشرها حتى وجدت في نهاية المطاف من يقبل إصدارها بين دفتي كتاب.وأنا بيرنز التي غادرت أيرلندا الشمالية منذ عام 2003 لتقيم في إنجلترا تود الآن زيارة مسقط رأسها وهاهي تقول إن عليها أيضا "الاهتمام بصحتها" بعد أن فازت في لندن بأكبر جائزة للأدب المكتوب بالإنجليزية وأن تستكمل رواية لها كانت قد شرعت في كتابتها قبل أن تكتب "بائع الحليب".ورواية "بائع الحليب" التي "تحمل صوت امرأة عاشت في سنوات السبعينيات بالقرن العشرين في مجتمع منقسم يرزح تحت وطأة ضغوط مكثفة ويعاني من العنف وتتعرض لمضايقات من رجل يستغل هذه الحالة المجتمعية لملاحقتها" هي الرواية الثالثة لآنا بيرنز البالغة من العمر 56 عاما ولها أقصوصة واحدة بعنوان "بطل غالبا".وآنا بيرنز مازالت تعاني من آثار جراحة أجرتها مؤخرا غير أنها تؤكد على أن جائزة مان بوكر جاءت "لتضمد كل جراحها"وواقع الحال أنها أبدعت بسرد مبتكر في تصوير تداعيات "الأوضاع غير الطبيعية في مجتمع ما وانعكاساتها على أبناء هذا المجتمع" بقدر مابرهنت على أن "التاريخ سواء البعيد أو القريب يشكل مصدر إلهام لاينضب للإبداع الروائي".وفيما تعد آنا بيرنز التي ولدت عام 1962 في بلفاست أول أيرلندية شمالية تفوز بجائزة مان بوكر فإن هذا الفوز وضع حدا لمخاوف ترددت كثيرا بشأن إمكانية "الهيمنة الأمريكية على هذه الجائزة" بعد أن انتزعها الأمريكيون خلال العامين السابقين. وكانت هذه الظاهرة قد أثارت قلقا ومخاوف في أوساط أدبية بريطانية مما يوصف "بأمركة الجائزة التي ظهرت لحيز الوجود عام 1969 تعد الأهم للأدب المكتوب بالإنجليزية" ولم يبد بعض النقاد البريطانيين ارتياحا بعد فوز جورج ساندرز بجائزة مان بوكر لعام 2017 عن روايته " لينكولن في باردو" ليكون ثاني أديب أمريكي يقتنص هذه الجائزة الأدبية الهامة للعام الثاني على التوالي بعد أن نالها في عام 2016 الأمريكي بول بيتي.ومع فوز الأيرلندية الشمالية آنا بيرنز هذا العام بجائزة مان بوكر والتي اعتبرت هذا الفوز مفاجأة لها يبدو أن من تحدثوا عن مخاطر "أمركة جائزة مان بوكر" لن يجدوا الآن على الأقل مايمكن أن ينالوا به من تلك الجائزة.. فأصالة الإبداع كما تجسدها آنا بيرنز سترد بقوة على هؤلاء القلقين والمتخوفين من "الأمركة".وكان رئيس لجنة المحكمين لجائزة مان بوكر هذا العام وهو الفيلسوف والروائي كوامي انتوني ابياه قد لفت في بيان حيثيات منح الجائزة إلى أن آنا بيرنز "تتحدى بنثرها المدهش كل الأنماط التقليدية في الشكل والتفكير".وكوامي انتوني ابياه ذاته وهو البالغ من العمر 64 عاما تعبر مسيرته في الحياة عن طبيعة التفاعلات الثقافية في العالم المعاصر فهو من أصل غاني وولد في لندن وعاش في بريطانيا كما عمل بالولايات المتحدة كأستاذ للفلسفة بجامعات "لورنس اس روكفلر وبرينستون ونيويورك" وحظى بعضوية "الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب" ويجمع مابين الفلسفة والرواية والنقد والتنظير الثقافي والاهتمامات اللغوية والسياسية مع تركيز على التاريخ الثقافي الأفريقي فيما تولى رئاسة لجنة المحكمين لجائزة مان بوكر هذا العام. ومن عام 2014 أضحى الطريق لجائزة مان بوكر ممهدا أمام الأمريكيين بعد تغيير قواعدها وخروجها عن "نطاق بريطانيا ودول الكمنولث" بما يسمح بمنحها لأي أديب يكتب أصلا بالإنجليزية وتنشر إبداعاته بهذه اللغة في المملكة المتحدة.وحسب ما أعلنته مؤسسة جائزة بوكر في هذا السياق المتعلق بتغيير قواعد منح جائزة المان بوكر فإن المؤسسة بذلك "تعانق اللغة الإنجليزية وهي تتدفق عفية بحرية مفصحة عن مواهبها وحيويتها ومجدها أينما كان" معتبرة أنها بتلك التعديلات قد "أسقطت قيود الجغرافيا والحدود". ورغم مخاوف البعض فقد بدا في العام الماضي أن اختيار الكاتب جورج ساندرز المؤمن "بأهمية التواصل الوجداني العميق بين البشر "ليكون ثانى أمريكي يفوز بجائزة مان بوكر للعام الثاني على التوالي يبرهن بالفعل على رؤية صائبة لمؤسسة جائزة بوكر عندما أعلنت قبل نحو 4 أعوام عن تغيير قواعد منح جائزة المان بوكر "لتتدفق اللغة الإنجليزية عفية بحرية ومفصحة عن مواهبها وحيويتها ومجدها".وإذ شهدت القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر هذا العام منافسة قوية بين ستة روائيين فقد طغى العنصر النسائي على هذه القائمة التي تضمنت 4 سيدات ورجلين، كما شهدت أصغر مرشحة في تاريخ الجائزة وهي الشابة البريطانية ديزي جونسون التي يبلغ عمرها 27 عاما.وهكذا لم يجانب الصواب أيضا هؤلاء النقاد الذين رأوا من قبل أن القواعد الجديدة والميسرة لجائزة مان بوكر تضخ إبداعا جديدا وتجدد فعلا شباب الجائزة التي طالتها من قبل انتقادات مريرة رأت أنها منحت لأعمال دون المستوى بل أن بعض المتحمسين لهذا التوجه الجديد ذهبوا إلى أن المان بوكر يمكن الآن وقد اقترب عمرها من النصف قرن أن تنافس جائزة نوبل للآداب من حيث الأهمية والثقل والمكانة واتساع رقعة التنافس وعدد المتنافسين.ونظرة على الروايات الست التي وصلت هذا العام للقائمة القصيرة لجائزة مان بوكر تكشف فورا عن تميز في الأسلوب أو على حد تعبير رئيس لجنة المحكمين كوامي انتوني ابياه فإن الروايات التي وصلت للقائمة القصيرة كانت "معجزة في الأسلوب الابتكاري".وإلى جانب المتوجة بالجائزة آنا بيرنز وأصغر مرشحة تصل للقائمة القصيرة ديزي جونسون ضمت قائمة المرشحين الكندي ايسي ايدوجيان، فضلا عن 3 أدباء أمريكيين هم ريتشارد باورز وروبن روبرتسون وراشيل كوشنر ليستحوذ الأمريكيون لأنفسهم على نصف القائمة القصيرة بأكملها لهذا العام، لكن الجائزة الكبرى ذهبت في نهاية المطاف لكاتبة أيرلندية شمالية تتحلى بشجاعة الاعتراف.ولعل الكاتب الأمريكي جورج ساندرز رد ضمنا على هؤلاء الذين يعتريهم الخوف أو يثيروا مخاوف الآخرين بشأن مايوصف "بأمركة جائزة مان بوكر" عندما قال، في كلمته بالعاصمة البريطانية لندن بعد الإعلان عن فوزه بالجائزة في العام الماضي،"إننا نسمع في الولايات المتحدة الآن كثيرا عن الحاجة لحماية الثقافة..حسنا هذه الليلة هي الثقافة..أنها ثقافة عالمية وثقافة تتسم بالرأفة".واعتبر ساندرز أن السؤال الرئيسى في عالم اليوم يتعلق بطبيعة استجابة المجتمع للأحداث والوقائع المخيفة وما إذا كانت هذه الاستجابة تتسم بالعنف والإقصاء أم أنها تتحلى بالحب، فيما ترى آنا بيرنز أن المبدع الحقيقي يتحرر من كل خوف أثناء الكتابة.ورواية "بائع الحليب" المتوجة بجائزة مان بوكر لهذا العام عمدت مؤلفتها آنا بيرنز لعدم إطلاق أسماء على شخصياتها، فيما تهتم آنا بيرنز كل الاهتمام بأصوات شخصياتها التي تخاطبها والسرد المبتكر بصرف النظر عن أسماء الشخصيات وحتى الآماكن حتى يصفها بعض النقاد الآن بأنها "من مجانين السرد المعاصر في الأدب المكتوب بالإنجليزية".ومع أنها متأثرة بوضوح بمعطيات مجتمعها الأيرلندي الشمالي فإن حرص آنا بيرنز على الابتعاد عن إطلاق أسماء على الأشخاص والأماكن يوميء لاعتقادها بأن على المبدع أن يعبر عن هموم الإنسان أيا كان اسمه أو أصله أو مكانه. وبقدر شجاعتها في الإفصاح عن تفاصيل معاناتها في الحياة تجد آنا بيرنز سعادة في الحديث عن الكتابة، كما أنها مهمومة بقضية "استخدام القوة سواء على مستوى المجتمع أو الفرد"، معتبرة أن شخصياتها الروائية هي التي تسعى إليها وتستدعيها للكتابة.ومن الغريب حقا في قصة آنا بيرنز انها دخلت عالم الكتابة بمحض مصادفة وهي تتجول في شمال لندن تسميها "نضوج اللحظة" وهي لحظة حانت عندما استيقظت من النوم ذات صباح لتكتب حلما رأته في الليل. ما أروعه من حلم ذلك الذي قاد فتاة فقيرة شبت عن الطوق في عائلة أيرلندية شمالية تعاني من كثرة عدد أفرادها وشظف عيشها لتستمر بقوة الحلم في تحدي قسوة معطيات حياتها حتى توجت بأهم جائزة للإبداع الروائي بالإنجليزية لتتحول إلى وردة ناضرة في حديقة الإبداع الإنساني.
مشاركة :