ذلكَ الشابُّ النحيل، الخجول، الذي كان يضع نظارتهُ عادةً على أرنبةِ أنفه آثار اهتمامي عندما قابلته في نادي الولعة ذات زمن، النادي الذي كنّا أعضاء فيه وكان يقع قريبًا من منزله المتواضع في القضيبية أو بيوت «اللينات» الاسكانية. كانت ملابسه توحي بأنه انسان بسيط حيث كان والده عاملاً في شركة نفط البحرين (بابكو)، فخبر الحرمان والمعاناة في حياته. كان عبدالله خليفة صامتًا ومنعزلا نسبيا، لم يكن من الشباب الذين يرسلون قهقهات عالية مثل غالبية جيلنا في بداية السبعينيات، بل كان يتحدث بهدوء وعيونه تمسح الوجوه وكأنه يستنطقها. شخصيته كانت انعزالية وربما حذرة. بعد سنوات طويلة اكتشفت انه لم يكن صامتًا عبثًا، بل كان يحمل ثقل الجبال على ظهره وفي قلبه. كان يحمل وطنًا في أحشائهِ، وطنًا أجمل يحلم به، كان الوطن في روحه وردة ومعشوقة، لذلك حمل همّ الوطن ووجوه الكادحين والفقراء والمعذبين في الأرض، يمرّون من بين عينيهِ مثل سفنٍ ولا يغادرون. نعم كان عاشقًا للوطن بمعنى الكلمة، ينسج قمصانه بأصابعه، ويدرأ الحزن عن وجه البلاد الذي علاه السواد. عندما تحدثنا حديثًا وديا لأول مرة، اخبرني أنه يكتب قصصا قصيرة وطلبت منه أن يطلعني على نماذج منها، وفعل ذلك لكن بعد تردد طويل. اعجبتني القصة التي اطلعني عليها فشجعته على الانضمام إلى أسرة الادباء والكتاب التي تأسست حديثا (1969)، لكنه ابتسم وقال: «لم يحن الوقت بعد، ولا أعتقد أن نتاجي يؤهلني للعضوية... انتم ادباء وأنا مجرد مبتدئ». لم أكن أعلم ولم يكن يعلم بالتأكيد انه سوف يصبح عرّاب القصة والرواية البحرينية وربما الخليجية أيضا في مستقبل قريب. كان الزمان مغلقا أمامنا والتنبؤ شبه مستحيل في زمن الصفاء الأول أو زمن الحلم الجميل. كان عبدالله يعمل مدرسًا، وكان ناشطًا سياسيا. عندما انضم إلى اسرة الأدباء كان عضوًا مختلفًا وشكّل تيارًا قويا يتبع الفن الواقعي. ولأنه لم يتقن التصنّع والمداهنة والنفاق، وكان جريئًا في طرح آرائه مثل أي كاتب حر وشريف، فقد حاربه البعض، ما دفعه إلى الانعزال والانكباب على الكتابة والفكر والابداع ليترك لنا إرثا ثقافيا غنيا. كانت الكتابة والقراءة همّه اليومي ووقوده اليومي، ولم يكن يطمح إلى شيء غير أن يعيش ليكتب، فلم يلتفت إلى الماديات كليا، بل عاش حياة شبه بائسة نسبيا، لكن حياة نقية تظللها الكتابة والإبداع. تجاوز عبدالله خليفة بإبداعاته الحدود الجغرافية ليقف في مصاف كبار الروائيين العرب، وترجمت بعض رواياته إلى لغات عالمية. كان ذلك في عام 1975 حينما أصدرت اسرة الأدباء عن طريق دار الغد أو بواسطة دار الغد نفسها التي كان يملكها الصديق الشاعر علي عبدالله خليفة عدة مطبوعات للكتّاب الشباب كان من بينها مجموعته القصصية الاولى «لحن الشتاء». كان عام 1975 عام النشر بحق؛ إذ أصدرت دار الغد عدة مطبوعات لهؤلاء الكتّاب من بينهم محمد عبدالملك «نحن نحب الشمس»، وعلي الشرقاوي «الرعد في زمن القحط» وإبراهيم بوهندي «أحلام نجمة الغبشة» وعبدالحميدالقائد «عاشق في زمن العطش»، وقبل ذلك اصدرت الدار ليعقوب المحرقي «عذابات أحمد بن ماجد». وبدأت قافلة ابداعات عبدالله خليفة مستمرة في سيرها الحثيث من دون توقف فأصدر مجموعته القصصية «الرمل والياسمين» عام 1983 و«يوم قائظ» عام 1986، ومن ثم انطلق في عالم الرواية فأصدر عديدا من الروايات، منها: اللالئ، والقرصان والمدينة، و«الهيرات»، وأغنية الماء والنار، وامراة، والضباب، ونشيد البحر، والينابيع، والاقلف وغيرها، مرورا بكتابه الفكري الثمين «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» في جزءين عام 2005. كتب الكثير من المقالات الفكرية المثيرة للجدل، فهاجمه البعض وانتقدوه بشدة لأنه كان يدعو إلى التجديد في كل شيء، في التراث والثقافة وحتى في الفكر التقدمي الذي حمله على كتفه سنوات عذاب طويلة. يقول في احدى مقالاته: «ليس فينا من هو كامل وتام، والذي لم يخطئ، وليس فينا من هو من معدن البطولة الخارقة، ولكن فينا من ناضل وجمع الحطب القليل للتنور الوطني، ومن كتب المنشورات في الليل المعتم وفي الغرف المرهفة بكل آذان جدرانها لخطى الأحذية، ومن خط أول شعار على الجدار العالي على المحكمة القديمة بكلمة «يسقط الاستعمار». رحل عبدالله خليفة، ولم يرحل في الواقع؛ لأننا نشعر بأنه مازال بيننا بابتسامته الساخرة من كل شيء، فرواياته على وجه الخصوص مازالت تضيء رفوف المكتبات على طول وعرض الوطن العربي الكبير. رحل قلب النقاء والحب. لروحه السلام الأبدي.
مشاركة :