في زمنٍ قديم بقِدم حروفي المنثورة في أوراقٍ وفي كتبٍ حمّلتُ فيها أوجاعي وأوجاع زماني بقِدَم صفحات الكتب التي قرأتها ومازالت قابعةً في مكتبتي وحيدةً لا تجد من يلامسها يداعبها، يقرأها كان زمنٌ للكتاب معنى، وللحرف عيون وآذان وحاسة سادسة وربما عاشرة، كان النقاش يحتدم في كل مكان: الفن للفن أو الفن للحياة أو للجماهير. معارك ضارية حدثت.. قطع علاقات بين عشاق وصانعي الحرف. زمنٌ طويناه وطوينا فيه رعونتنا وأحلامنا النارية وعشقنا الوحشي كما كنت أسميه. يتساءلون: لماذا نكتب أو ما جدوى الكتابة في هذا الزمن الحارق المارق الفاسد؟ كنت أتحدث مع كاتبة صديقة عن آخر مشاريعها الإبداعية فأخبرتني أنها بدأت في كتابة رواية منذ فترة لكن شعور اللاجدوى يلاحقها ويفسد عليها رغبتها في مواصلة الكتابة. «كتبنا كثيرًا.. احترقنا مع كل حرف.. حلمنا مع كل حرف فماذا تغيّر غيرنا حين أصبحنا فريسة للكآبة وربما الاكتئاب؟.. ما عاد أحد يهتم بنا لا ولا الجهات المفروض أن تكون مسؤولة عن رعاية الثقافة.. أصبحنا وحيدين جدًا نعدو وراء لقمة العيش التي أصبحت عسيرة، تنهش في أرواحنا». هكذا اختتمت صديقتي مشاعرها وأحاسيسها. فبدأت أسأل نفسي نفس السؤال، فكلنا في الهمِّ جرحى، لكنني استدركت بأنه من المستحيل التراجع الآن.. تأخر الوقت.. سيطرت الكتابة على كل مداخلنا ومخارجنا.. يكفي أن الكتابة تمنحني شخصيا إحساسا بفرح لا يمكن وصفه في كلمات.. والإحساس باللاخواء.. متعةٌ دافئة نادرة لا يمنحك إياها أي شيء آخر.. الشعور بأنك تقف على قلب العالم وتجسّ نبضه.. تكتبه.. تكتب نفسك.. تكتبهم. قال لي صديق يومًا عند صدور أحد أعمالي: «أنت أغنانا جميعًا بثقافتك.. بكتبك» فضحكتُ.. ضحكتُ حتى الدمع ربما على حال الكتّاب عمومًا، بالرغم من أنني أؤمن بشدة بأن الكتابة حياة.. الكتابة أجمل طريقة لمقاومة التيه في عالم ما عاد يمنحك غير الغثيان. يقول الروائي والشاعر العراقي أسعد الجبوري في إحدى مقابلاته: «يمكن تحويل الشعر إلى طاقة، بمعزل عن تحرير أدوات اللغة. فالشعرُ ليس سريراً للنوم، بل هو مجالٌ مغناطيسي لتكوين العلاقات ما بين مُغْرَمي اللعب بكُرات النصوص. كذلك الرواية، فهي لا تعني تراكُم معارِف وتزايُد خبرات في التخيّل، بقدْر ما على الروائي أن يمتلك مجموعة آلات تستطيع التحكّم بتفكيك براغي الأمراض الجوانيّة المُستعصية للوجود البشري. وإذا كانت الكتابة نوعاً من الشَغَف أو الاحتراق الوجداني، فإن كتابات الساعة الراهِنة مسامير تكاد تُدَقّ بالفراغ، وليس لها من الأصوات إلا ما يؤتمن على ذلك الصوت الذي تنطق به النملة، وهي تنتظم في طوابير عمل لبناء حياة». ويقول الشاعر العراقي خالد المعالي: «الكتابة بالنسبة إلى الكاتب لا علاقة لها بالتأثير الحاصل الذي يحصل الآن، البارحة، أو الآن أو غداً، الكتابة بالنسبة إلى الكاتب شيء مصيري وشخصي تماماً. الكاتب لا ينتظر أن يرى آثار كتاباته على القُرَّاء أو في المجتمع، إنه يؤدّي رسالته ككاتبٍ لا أكثر.. نكتب الشعر لأننا نعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتعبير عمّا هو شخصي وعمّا نريد أن نقوله الآن. عما نريد أن نُغنّيه، أن نتركه كوصيّةٍ». نعم.. الكتابة هي خلق الدهشة في عالم غير مدهش.. إغواء صدمة للقارئ بدون صدمات مادية ربما مغناطيسية...هي عملية هزّ ورجّ أو ربما استحداث زلزال لإيقاظ عالمٍ يغوص إلى القاع متجهًا نحو موت حقيقي.. موت الضمير!! Alqaed2@gmail.com
مشاركة :