وهـــج الـكـتــابـة: الكتابة في زمن جاحد

  • 10/2/2021
  • 01:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

في‭ ‬زمنٍ‭ ‬قديم‭ ‬بقِدم‭ ‬حروفي المنثورة‭ ‬في‭ ‬أوراقٍ‭ ‬وفي‭ ‬كتبٍ‭ ‬ حمّلتُ‭ ‬فيها‭ ‬أوجاعي‭ ‬وأوجاع‭ ‬زماني بقِدَم‭ ‬صفحات‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬قرأتها‭ ‬ ومازالت‭ ‬قابعةً‭ ‬في‭ ‬مكتبتي وحيدةً‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يلامسها يداعبها،‭ ‬يقرأها كان‭ ‬زمنٌ‭ ‬للكتاب‭ ‬معنى،‭ ‬وللحرف‭ ‬عيون‭ ‬وآذان‭ ‬وحاسة‭ ‬سادسة‭ ‬وربما‭ ‬عاشرة،‭ ‬كان‭ ‬النقاش‭ ‬يحتدم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭: ‬الفن‭ ‬للفن‭ ‬أو‭ ‬الفن‭ ‬للحياة‭ ‬أو‭ ‬للجماهير‭. ‬معارك‭ ‬ضارية‭ ‬حدثت‭.. ‬قطع‭ ‬علاقات‭ ‬بين‭ ‬عشاق‭ ‬وصانعي‭ ‬الحرف‭. ‬زمنٌ‭ ‬طويناه‭ ‬وطوينا‭ ‬فيه‭ ‬رعونتنا‭ ‬وأحلامنا‭ ‬النارية‭ ‬وعشقنا‭ ‬الوحشي‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬أسميه‭. ‬يتساءلون‭: ‬لماذا‭ ‬نكتب‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬جدوى‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬الحارق‭ ‬المارق‭ ‬الفاسد؟‭ ‬كنت‭ ‬أتحدث‭ ‬مع‭ ‬كاتبة‭ ‬صديقة‭ ‬عن‭ ‬آخر‭ ‬مشاريعها‭ ‬الإبداعية‭ ‬فأخبرتني‭ ‬أنها‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬لكن‭ ‬شعور‭ ‬اللاجدوى‭ ‬يلاحقها‭ ‬ويفسد‭ ‬عليها‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬مواصلة‭ ‬الكتابة‭. ‬‮«‬كتبنا‭ ‬كثيرًا‭.. ‬احترقنا‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬حرف‭.. ‬حلمنا‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬حرف‭ ‬فماذا‭ ‬تغيّر‭ ‬غيرنا‭ ‬حين‭ ‬أصبحنا‭ ‬فريسة‭ ‬للكآبة‭ ‬وربما‭ ‬الاكتئاب؟‭.. ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬أحد‭ ‬يهتم‭ ‬بنا‭ ‬لا‭ ‬ولا‭ ‬الجهات‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬رعاية‭ ‬الثقافة‭.. ‬أصبحنا‭ ‬وحيدين‭ ‬جدًا‭ ‬نعدو‭ ‬وراء‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬عسيرة،‭ ‬تنهش‭ ‬في‭ ‬أرواحنا‮»‬‭. ‬هكذا‭ ‬اختتمت‭ ‬صديقتي‭ ‬مشاعرها‭ ‬وأحاسيسها‭. ‬فبدأت‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭ ‬نفس‭ ‬السؤال،‭ ‬فكلنا‭ ‬في‭ ‬الهمِّ‭ ‬جرحى،‭ ‬لكنني‭ ‬استدركت‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬التراجع‭ ‬الآن‭.. ‬تأخر‭ ‬الوقت‭.. ‬سيطرت‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مداخلنا‭ ‬ومخارجنا‭.. ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬تمنحني‭ ‬شخصيا‭ ‬إحساسا‭ ‬بفرح‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬وصفه‭ ‬في‭ ‬كلمات‭.. ‬والإحساس‭ ‬باللاخواء‭.. ‬متعةٌ‭ ‬دافئة‭ ‬نادرة‭ ‬لا‭ ‬يمنحك‭ ‬إياها‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.. ‬الشعور‭ ‬بأنك‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬العالم‭ ‬وتجسّ‭ ‬نبضه‭.. ‬تكتبه‭.. ‬تكتب‭ ‬نفسك‭.. ‬تكتبهم‭. ‬ قال‭ ‬لي‭ ‬صديق‭ ‬يومًا‭ ‬عند‭ ‬صدور‭ ‬أحد‭ ‬أعمالي‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬أغنانا‭ ‬جميعًا‭ ‬بثقافتك‭.. ‬بكتبك‮»‬‭ ‬فضحكتُ‭.. ‬ضحكتُ‭ ‬حتى‭ ‬الدمع‭ ‬ربما‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬الكتّاب‭ ‬عمومًا،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬أؤمن‭ ‬بشدة‭ ‬بأن‭ ‬الكتابة‭ ‬حياة‭.. ‬الكتابة‭ ‬أجمل‭ ‬طريقة‭ ‬لمقاومة‭ ‬التيه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬يمنحك‭ ‬غير‭ ‬الغثيان‭. ‬ يقول‭ ‬الروائي‭ ‬والشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬أسعد‭ ‬الجبوري‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقابلاته‭: ‬‮«‬يمكن‭ ‬تحويل‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬طاقة،‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬تحرير‭ ‬أدوات‭ ‬اللغة‭. ‬فالشعرُ‭ ‬ليس‭ ‬سريراً‭ ‬للنوم،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مجالٌ‭ ‬مغناطيسي‭ ‬لتكوين‭ ‬العلاقات‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مُغْرَمي‭ ‬اللعب‭ ‬بكُرات‭ ‬النصوص‭. ‬كذلك‭ ‬الرواية،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬تراكُم‭ ‬معارِف‭ ‬وتزايُد‭ ‬خبرات‭ ‬في‭ ‬التخيّل،‭ ‬بقدْر‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬الروائي‭ ‬أن‭ ‬يمتلك‭ ‬مجموعة‭ ‬آلات‭ ‬تستطيع‭ ‬التحكّم‭ ‬بتفكيك‭ ‬براغي‭ ‬الأمراض‭ ‬الجوانيّة‭ ‬المُستعصية‭ ‬للوجود‭ ‬البشري‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الكتابة‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الشَغَف‭ ‬أو‭ ‬الاحتراق‭ ‬الوجداني،‭ ‬فإن‭ ‬كتابات‭ ‬الساعة‭ ‬الراهِنة‭ ‬مسامير‭ ‬تكاد‭ ‬تُدَقّ‭ ‬بالفراغ،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يؤتمن‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الصوت‭ ‬الذي‭ ‬تنطق‭ ‬به‭ ‬النملة،‭ ‬وهي‭ ‬تنتظم‭ ‬في‭ ‬طوابير‭ ‬عمل‭ ‬لبناء‭ ‬حياة‮»‬‭.‬ ويقول‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬خالد‭ ‬المعالي‭: ‬‮«‬الكتابة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكاتب‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالتأثير‭ ‬الحاصل‭ ‬الذي‭ ‬يحصل‭ ‬الآن،‭ ‬البارحة،‭ ‬أو‭ ‬الآن‭ ‬أو‭ ‬غداً،‭ ‬الكتابة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكاتب‭ ‬شيء‭ ‬مصيري‭ ‬وشخصي‭ ‬تماماً‭. ‬الكاتب‭ ‬لا‭ ‬ينتظر‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬آثار‭ ‬كتاباته‭ ‬على‭ ‬القُرَّاء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬إنه‭ ‬يؤدّي‭ ‬رسالته‭ ‬ككاتبٍ‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭.. ‬نكتب‭ ‬الشعر‭ ‬لأننا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الطريقة‭ ‬الوحيدة‭ ‬للتعبير‭ ‬عمّا‭ ‬هو‭ ‬شخصي‭ ‬وعمّا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نقوله‭ ‬الآن‭. ‬عما‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نُغنّيه،‭ ‬أن‭ ‬نتركه‭ ‬كوصيّةٍ‮»‬‭.‬ نعم‭.. ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬خلق‭ ‬الدهشة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬غير‭ ‬مدهش‭.. ‬إغواء‭ ‬صدمة‭ ‬للقارئ‭ ‬بدون‭ ‬صدمات‭ ‬مادية‭ ‬ربما‭ ‬مغناطيسية‭...‬هي‭ ‬عملية‭ ‬هزّ‭ ‬ورجّ‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬استحداث‭ ‬زلزال‭ ‬لإيقاظ‭ ‬عالمٍ‭ ‬يغوص‭ ‬إلى‭ ‬القاع‭ ‬متجهًا‭ ‬نحو‭ ‬موت‭ ‬حقيقي‭.. ‬موت‭ ‬الضمير‭!!‬   Alqaed2@gmail‭.‬com‭ ‬

مشاركة :