لكل امرئ شكايته من مستبد فاسد. وتتنوع القصص في أحجامها ومسارح أحداثها. والمظلومون هم طلاب الحرية والعدالة والكرامة! في النطاق الصغير لشكاية العبد لله، لم يتوقف الشاكي عن هز قلمه لكي يزجر المُشتكى منه، وهو عند بعض أهل الأرض، الأنموذج البشري لــ”الجبلاوي” القرين الرمزي لرب العالمين، في رواية “أولاد حارتنا”، ليس بتجليات مظالمه، وإنما بتجليات ضعف الناس وخوفهم وهوانهم. كان نجيب محفوظ قد أتم كتابة الرواية الإشكالية في العام 1959، ولم يُسمح له بنشرها في بلاده، إلا في سنة موته بعد ثماني سنين من حصوله على جائزة نوبل للآداب. فقد رأت المرجعيات الدينية أن “أولاد حارتنا” تمثل مروقا على الدين، وكان في هذا الرأي بعض المنطق، لوضوح الهوية المقصودة من الرمز، ولتخليق أوصاف له ليست فيه. فقد كان بمقدور الروائي أن يتحاشاها، وأن يكتفي بشخصية “الناظر” المكلف بأوقاف الحارة، وهو منصب يحسم في الرواية وجهة الخير والشر، وتناوب عليه “نُظّارٌ” كثيرون، ظلوا على امتداد الرواية ينافقون الحاكم ويفسدون باسمه ويتغالظون، حتى ورثوا “الجبلاوي” بعد موته! نجيب محفوظ من جانبه، رأى السرد دفاعا عن أهل الأرض، وأن العلم وحده ليس كافيا بغير دين، بدلالة دور “عرفة” الذي ظن أن السعادة والعدل يأتيان بالعلم دون الدين. فقد مات “الجبلاوي” وورثه “الناظر” الخطير. والقصد في السياق هو القول إن الرسالات السماوية بمثابة سلسلة من حركات المقاومة الساعية إلى تكريس العدل وإنهاء الظلم والطغيان، لكن مفعولها ينتهي بموت الأنبياء، موسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) وهم الثلاثة الذين يقدم محفوظ أدوارا مشابهة وموازية لأدوارهم في قصص الأنبياء، من خلال الشخصيات الثلاث: جَبل ورفاعة وقاسم! ردا على موجة النقد، قال محفوظ “رغم أن الرواية مستوحاة من قصص الأنبياء إلا أن هدفها ليس سرد حياتهم في قالب روائي، بل الاستفادة من قصصهم لتصوير تطلع المجتمع الإنساني للقيم التي سعى الأنبياء لتحقيقها كالعدل والحق والسعادة!”. على أي حال، ليس من الحق والعدل، أن يصبح أي “جبلاوي” معادلا رمزيا لرب السماء. فالدكتاتور هو التجسيد البشري الحي لظلم الإنسان للإنسان. فـ”جبلاوي” أوقاتنا، هو المخلوق البشري الذي يقفز من قاع القفة إلى أذنها، ويشك في ولاء الرعايا ويتطلب رضوخهم. أما الذين يعترضون على سلوك المستبد البشري، فليسوا أبالسة يشبهون “إدريس” الذي أغضب “جبلاوي” نجيب محفوظ، بصياحه واعتراضاته، فطرده من الدار إلى الحارة، وإلى حيث يعتدي الأقوياء على الضعفاء. إن دعاة الحرية والعدالة، هم المبشرون، بين أهل الحارة، بالخير والعدل والكرامة الإنسانية!
مشاركة :