أنت تكتب إذاً أنت تهدر الوقت والمال! قد يتبادر للبعض أن الكاتب بكل سهولة يسطر الكلمات ويملأ الأوراق بكل جماليات وفنون الأدب والثقافة، إلا أن هذه الفكرة خاطئة، فهو يحتاج إلى أن يكون مهيئاً نفسياً للكتابة ومنزوياً في أجواء ملهمة حتى لو كانت الضوضاء، وللجميع منهم طقوس قد تفاجئهم أحياناً بمداد أحرف يانعة وعذبة وكانت مستحيلة الاستحضار من قبل، تمر كذلك على بعض الكتاب السنين العجاف التي يشح فيها القلم وتقل فيها العدة والعتاد من الأفكار والمحفزات ويغيب الإلهام غياباً تاماً، وقد يحتضن الكاتب بعض الأفكار الفريدة لأنه لم يجد الجُمل التي تصف الفكرة ويفضل أن يحتفظ بها ضمن خلجات روحه، وفي كل ورقة كتاب يعتصر الكاتب نفسه وثقافته وذكرياته المترجمة بالرمزية وخياله المليء بالتمني، وطموحه في بلوغ النصوص قمة الفائدة والدهشة والبلاغة واللذة لدى القارئ، وهكذا يكافح الجميع للوصول للقمة، لكن لا يصل إلا من تسمح له فوهة القدر والظروف وقدرته الذاتية في التخطي والوصول إلى أعلى مراتب الكتابة المبهرة... يجب أن ينتبه الكاتب ليبدع إلى أن من يريد القراءة سيفهم ما ترمي إليه فلا تكن ركيكاً ولا تبسط ماتكتبه استخفافاً بالقارئ واسأل ذاتك: ماذا تريد منه؟ وماذا ستقدم له؟ ومن قارئك المستهدف؟ لا بد للكاتب أن يرقى بذائقة القارئ وأن يعطيه جرعات ثقافية ومعلومات بطريقة فذة وأن يكتنز مفردات تجعل ممن يقرأه يكتب بعده بفصاحة، أذكى الكتاب من يبتكر ويبتدع في أسطر الكتب جملاً تخلد وتؤثر في الوعي المجتمعي، ومن هنا سأتطرق للحديث عن مشاكل تفرضها الحياة على الكتاب العظماء ممن يملكون أقلاماً ذهبيةً بالفطرة فقابلتهم الحياة بعملٍ يمتد لثماني ساعات عصيبة، وزحمة سير يستغرقون للفكاك منها ثلاث ساعات مجزأةً ذهاباً وإياباً ليجدون أنفسهم في مكان يمتص الطاقة والموهبة، لا تنفك الحياة تركلهم بمرارة، يتبقى من اليوم ثلاث عشرة ساعة فهل ستكفي للنوم أم العائلة أم الأدب الذي وإن كتب في هذا الوقت سيكتب بمرارة الأيام المتكررة! تتكاثر التزامات الكاتب العربي والمُحزن فعلاً حين نقارن كاتباً أجنبياً بآخر عربيّ ونحاكم الأخير بالدونية والأقل موهبة فهذا ظلم فظيع، قد يقضي الأول ستة أشهر في التنزه واختزال الصور والمواقف وأصوات الطبيعة، يتنقل بين الأوطان ليجني ثمار الغربة والاستجمام ويعود للكتابة بروح ملأى بالأحداث، تتدفق المشاعر والكلمات والأفكار كشلال رآه في نياجارا أو كنهرٍ في شرق آسيا... وكل كاتب قد تقف أمام طموحه أشياء كثيرة وغالباً تكون أكثر على المرأة، وتبقى الذات هي العدو الأكبر في غالب الأوقات، ولعل كل قلم ماهر في الصياغة وملم باللغة تمنى أن يرى قلمه النور ولكن النور ينطفئ حينما: يطوق نفسه بقوله: لا أستطيع!! يستسلم أمام العقبات وينسى أنها مجرد سلم لا بد من اجتيازه.. وعلى الرغم من كل ما تقدم إن الكتابة حياة الكاتب تؤرخ الأحداث تعبر عن صراخ الأبكم واستجابة الأصم وآلام المرضى بالعشق غير المأسوف عليهم، والكاتب الحقيقي منا دائماً تقتله الركاكة ولا يقاوم اللعب بأصول لغته وقواعدها فتجده يناضل ليحدث بعد هذا أمراً، ينقد ويعلم ويعزز، فالأديب والمثقف لا تقف مهمته عند حد الكتابة فقط.. الطريف في الأمر أنه مع كل هذه المشاكل من الصعب في وطننا العربي أن تكون كاتباً وتغنيك الكتابة، أنت تكتب إذاً أنت تهدر الوقت والمال؛ لأنك في الوقت المهدور للكتابة لاتستطيع أن تعمل في شيء يدر عليك المال.. إنكم الشهود اليوم على واقع الكتاب وكنتم معي هنا على مرأى من معاناتهم وصعوبة الكتابة وتضحية الكاتب في سبيل الحرف الذي يدوي في النفس فيحدث ثورة ضد الجهل ويبرئ التائه ويهذب الجمهور ويرغبهم في قراءة الأفضل فيرتقي القارئ دونما دراية ويستدرك الدر ويغنم بمحصلة ثرية من المعرفة والثقافة واللغة تجتمع بشخصيته مكونةً فرداً فعالاً نهل من كتب لها ثقلها الثقافي والمعرفي علمياً وأدبياً أو في أي مجالٍ كان.. في النهاية أرى أن النهج في المضمار الثقافي والأدبي والفكري قد يؤدي إلى تفشي الجهل رغماً عن الكاتب والقارئ فضلاً عن العبث بفكر القراء الذي سينتج عنه مجتمعٌ بلا فكر أو ذائقة، بل يملي عليه التسويق اختياراته في القراءة..
مشاركة :