لا شك أن الإنسان عندما ينظر إلى المرآة يرى صورته ويظن أن صورته هي ذاته ويتعامل ويتفاعل معها على هذا الأساس، وهو لا يدري أن هناك فارقًا ضخمًا بين الصورة التي يراها وبين الذات التي في الداخل والتي (تشوشر) عليها صورة المرآة. إن الإنسان المسكين يعيش كل حياته أسيرًا لصورته ومع الوقت يتماهى معها تمامًا ويعيش في حدودها فهو يرى وجهًا محددًا مقبولًا أو جميلًا أو غير ذلك وكل هذه أمور نسبية بحتة، هذا فضلًا عن أن الصورة التي نراها في المرآة محدودة بزمان ومكان وحضارة وأسرة ودين وثقافة وعادات وتقاليد... إلخ لذلك نجد الإنسان يبذل كل جهده ليحيا في إطار هذه الصورة ويعمل دومًا للحفاظ عليها، وبالتأمل في هذا الأمر وبعمق نكتشف أن أكثر ما يعانيه الإنسان في العصر الحديث من اغتراب وقلق وضياع يدل على استمرار ذلك الاعتقال وهذا الاعتقال في الصورة ما هو إلا شكل من أشكال الانحراف المعرفي، وذلك لأن الذات البشرية بكل اتساعها وعمقها وروعتها يعبر عنها من خلال الصورة وليس من الأصل أي من المظهر وليس من الجوهر فالحرية الفكرية مثلًا أو السياسية أو الشخصية ليست وليدة الصورة الخارجية أو منحة منها بالدرجة الأولى بل العكس هو الصحيح فكل هذه المبادئ الرائعة مع التطلع للانطلاق والحلم بالقيادة والريادة والطموح والحرية هي كلها من الذات لكنها لا تتحقق لنا بسبب اعتقالها في الصورة التي نراها في المرآة، لذلك يعيش إنسان العصر الحديث يعاني من الاغتراب والقلق والضياع وهذه المعاناة تدل على استمرار ذلك الاعتقال، وأن نرضى بهذا الاعتقال ما هو إلا شكل من أشكال الانحراف المعرفي لأن الذات البشرية الداخلية في هذه الحالة خاضعة للصورة الخارجية، إذن فالحرية وفقًا لما تقدم ليست هبة خارجية بالدرجة الأولى فليس بإمكان القوانين والدساتير المطبوعة على ورق أو المحفورة على حجر أن تضمنها أو تقدمها، وأيضًا ليس المسجد أو الكنيسة يمكنهما أن يعطوا الحرية لأحد أو يضمها له بل أحيانًا يحدث العكس، لذلك لا وجود للحرية من دون الفكاك من أسر ذلك الاعتقال وأي حديث عنها بمعزل عن ذلك الفكاك ما هو إلا مجرد هذر أو دوران في حلقة مفرغة في أحسن الأحوال، والحاجة الآن أن تكون مرجعيتنا الذات بكل عناها وليس الصورة بكل فقرها ومحدوديتها.
مشاركة :