يوم الثلاثاء أمس (15 ربيع الأول 1436، 6 يناير 2015)، ألقى سمو ولي العهد خطاب خادم الحرمين الشريفين لافتتاح أعمال السنة الثالثة من الدورة السادسة لمجلس الشورى، كما وُزعت على أعضاء المجلس ووسائل الإعلام كلمة مفصلة عن سياسات الحكومة السعودية نحو العديد من القضايا. وبلادنا بحاجة إلى هذا التقليد السنوي دائما، ولكن في هذا العام كان له وقع خاص، ففي العام المنصرم مرت أحداث هزت المنطقة وتأثرت بها المملكة، منها التحول النوعي لجرائم الإرهاب ممثلا في "داعش" في سورية والعراق، وفي المملكة التي شهدت أول هجوم طائفي في بلدة (الدالوة) بالأحساء، وفي العوامية التي استشرست فيها القوى المعادية للوطن والمرتبطة بإيران بالهجمات العبثية على قوات الأمن، وعلى حدود المملكة بالهجمات الإرهابية التي تحاول تصدير نزاعات دول الجوار، كان آخرها الهجوم في عرعر الذي استشهد فيه عدد من حرس الحدود. ولم تزدد مشاكل المنطقة إلا تعقيدا ودموية، في فلسطين واليمن وسورية والعراق. وتدخلات إيران في شؤون دول المنطقة، فخلافا لما توقع البعض، لم تؤد مفاوضاتها مع الغرب حول الملف النووي إلى تغير جوهري في تصرفاتها، سوى تغيير شكلي في خطابها. ومنذ الصيف الماضي، شهدت المنطقة زلزالا اقتصاديا مستمرا تمثل في انخفاض أسعار البترول بنحو 50 بالمئة، له تداعياته على الاقتصاد المحلي والدولي، بعضها إيجابي وأكثرها غير ذلك. وقد بدأ خطاب خادم الحرمين بالإشارة إلى التحديات الإقليمية غير المسبوقة، "نتيجة لما حل بدول مجاورة أو قريبة من أزمات حادة عصفت بواقعها، ودفعتها إلى مستنقع الحروب الأهلية والصراعات الطائفية". ثم تطرق إلى ما يحدث في سوق البترول العالمية من تطورات "سببتها عوامل عدة، يأتي في مقدمتها ضعف النمو في الاقتصاد العالمي." مؤكدا أن "المملكةَ ستبقى مدافعة عن مصالحها الاقتصادية، ومكانتها العالمية ضمن منظور وطني، يراعي متطلبات رفاهية المواطن، والتنمية المستدامة، ومصالح أجيال الحاضر والمستقبل". وفي هذه الجملة الأخيرة تأكيد على محددات السياسة الاقتصادية للمملكة، أهمها الثلاثة الأخيرة: الأول: توفير "رفاهية المواطن" أي الاستمرار في الإنفاق التنموي مثل الصحة والتعليم والنقل وغيرها. الثاني: اتباع سياسات "التنمية المستدامة"، أي الحفاظ على الموارد الطبيعية للبلاد مثل البترول والغاز والماء بالطرق التي تطيل أمدها وترشد استخدامها. الثالث: مراعاة "مصالح أجيال الحاضر والمستقبل"، أي عدم استنزاف الموارد الطبيعية والمالية للبلاد لمصلحة الجيل الحاضر، بل الحفاظ عليها لمصلحة الأجيال القادمة. وقد تناول خادم الحرمين الشريفين في كلمته كل هذه المواضيع بتفصيل واضح، ولا يتسع المقام لإيجاز مضامين الكلمة كافة، ولكني سأركز على موضوع أولته الكلمة أهمية بالغة، وهو الإرهاب والحاجة إلى التعامل مع حاضنته الرئيسة وهي التطرف الفكري. أشارت الكلمة إلى "الإرهاب" نحو عشر مرات، أكثر من أي موضوع آخر في تقديري، وقال خادم الحرمين: "لقد ابتلي العالم بداء الإرهاب هذا الداء الذي استشرى في أنحاء المعمورة، والذي أضر بالمسلمين أكثر من غيرهم، وعانت منه بلادكم كما عانى منه غيرها". وأشار إلى ما قامت به المملكة في مواجهة هذه الآفة على محاور عدة: المحور الأول: توفير الإطار القانوني لمحاربة الإرهاب بإقرار نظام جرائم الإرهاب وتمويله. المحور الثاني: العمل الأمني، من خلال التحركات الأمنية الاستباقية لإفشال خطط الإرهابيين ومطاردتهم والقبض عليهم. المحور الثالث: العمل القضائي بمحاكمة المتهمين في قضايا الإرهاب وإيقاع العقوبات الرادعة على من يثبت تورطه فيها. المحور الرابع: العمل الدولي إذ كان للمملكة "السبق في التحذير من الإرهاب وذلك من خلال دعوتنا إلى إنشاء المركز الدولي لمكافحة الإرهاب والدعوة إلى مواجهة الإرهاب على المستوى الدولي، وقدمت المملكة لهذا المركز تبرعا بمبلغ 100 مليون دولار لتفعيل دور هذا المركز عاجلا، ثم عززنا ذلك بدعوتنا المجتمع الإقليمي والدولي إلى التعاون لمكافحة هذا الداء". المحور الخامس: العمل السياسي، من خلال ما قامت به المملكة، وخادم الحرمين شخصيا، من دور فاعل خليجيا وعربيا وإسلاميا ودوليا، لتوحيد الصفوف في مواجهة الإرهاب، وتجنيب المملكة الآثار السلبية للقلاقل في دول الجوار. ومن أهم ذلك ما تم على صعيد مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث أسفرت جهود خادم الحرمين عن "إعادة اللحمة لدول المجلس وتعزيز مسيرته والتنسيق بين سياسات دوله بما يحقق الأمن والاستقرار"، وهي أولوية لـ"تحقيق الاتحاد والتكامل والتعاون بيننا في مختلف المجالات،" بما في ذلك مواجهة الإرهاب. المحور السادس: العمل العسكري، إذ تمثل المملكة جزءا مهما من التحالف العسكري الدولي ضد الإرهاب. أما المحور السابع فهو المواجهة الفكرية للإرهاب وحاضنته التطرف الفكري، عن طريق جهود "العلماء والدعاة والمثقفين لبيان ضلال هذا الفكر وخطورته على العقيدة والأمن، ومن ذلك ما صدر عن هيئة كبار العلماء عن الإرهاب وخطره ومكافحته". أكد خادم الحرمين مرات متعددة على هذا المحور، وكنت خصصت مقالي في الوطن لخطابه أمام وفود الحجاج في منى في يوم الأحد 11 ذي الحجة 1435 (خطاب الملك: سنجتث الإرهاب وندحر التطرف، الوطن، 14/10/2014)، حين أشار إلى أن مواجهة الغلو تبدأ من المنزل، وتستمر في المدارس، والمساجد، وتحتاج إلى دعم العلماء والكتاب والمثقفين وقادة الفكر والرأي والمجتمع. ولخادم الحرمين دور تاريخي في التأسيس لدور الحوار والتسامح لمواجهة التطرف والإرهاب. ففي جمادى الأولى 1424 (يوليو 2003)، أعلن، وهو ما زال وليا للعهد، عن تأسيس مركز الحوار الوطني، وقال حينها إن هدف المركز: "إيجاد قناة للتعبير المسؤول سيكون لها أثر فعال في محاربة التعصب والغلو والتطرف، ويوجد مناخا نقيا تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة التي ترفض الإرهاب والفكر الإرهابي". وقد أسست تلك الكلمة والحوار الوطني الذي تلاها للوسطية والحوار حين كانا مفهومين مجهولين بين أوساط كثيرة في المجتمع السعودي. لقد جاءت كلمة خادم الحرمين أمام مجلس الشورى أول من أمس لتؤكد أن الطريق ما زالت طويلة لدحر الإرهاب والتطرف.
مشاركة :