لست في معرض الكتابة عن الذات اصطلاحاً، وبالتالي لا أدخل مدخل من يفرّق بين المذكرات واليوميات ونصوص السيرة الذاتية، لأنني أدرك معنى مقولة توماس كليرك “السيرة الذاتية مفهوم ملتبس” و”إنها أكثر من جنس أدبي، وهي نمط من أنماط الكتابة”. بدأت تجربتي بقراءة كتب السيرة مع “اعترافات” جان جاك روسو، إذ قرأت ما جاء فيه على أنه صورة حقيقية لحياة روسو، من دون أن أشك في أن يكون الخيال ومتغيرات الذاكرة، قد لعبا في مسارات أحداثها، وحين قرأت “الأيام” لطه حسين، قادتني لغته إلى الإحساس بأنني أقرأ عملاً روائياً، ولكثرة ما قيل عن جدية العقاد، كان “أنا” بالنسبة إلي، هو الحقيقة كاملة. إن أول مرة، بدأ فيها الشك عندي، يراودني بشأن الحقيقة، كان مع مذكرات بابلو نيرودا “أشهد أنني قد عشت” فحين صدرت كنتُ أقيم في مدريد، واستمعت إلى من يشكك ببعض روايات المرحلة الإسبانية، ومنهم مترجم المذكرات إلى اللغة العربية الدكتور محمود صبح، والسيدة ألكسندرة، ابنة آخر رئيس للجمهورية في إسبانيا. أما “لا مذكرات” أندريه مالرو، فقد خرجتُ من قراءتها بانطباع، إنه عمد إلى أن تكون أقرب إلى النص الإبداعي، وراودني مثل هذا الانطباع مع “الطريق إلى الغريكو” لكازنزاكي، ومما يلفت النظر، إن نصوص كازنزاكي الروائية، تجعل المتلقي، أعمق إحساساً بالواقع، مما يحسه في هذه السيرة، كما هو الحال مع أبطال وأحداث “زوربا” و”الأخوة الأعداء” وغيرها. لم تعد السيرة الذاتية، في كثير من النماذج التي نقرأها، إلا توحد بين جنس الرواية وجنس السيرة، ومثلما عرفنا “الرواية – السيرة” فإننا نعرف “السيرة – الرواية” والأخيرة لم تعد حالات عابرة في نصوص السيرة الذاتية، بل أصبحت جنساً أدبياً جديداً، و”مرايا” نجيب محفوظ، مثال عليه، ولم يكن اقتران السيرة بالخيال أو بالذاكرة أو بالنضج جديداً، وعلى هذا الصعيد وردت إشارة من الدكتور نصر أبوزيد، حين تناول سيرة محيي الدين بن عربي “إن الراوي هنا، ليس الفتى، بل هو الشيخ الذي أصبح على معرفة بالتراث”. غير أن الالتزام الموضوعي في كتابة السيرة، لم يغب، وما كتبه الجواهري من صفحات سيرته، أقرب إلى هذا الالتزام، حيث كان صريحاً وصادقاً في تناول هذه الصفحات، فما أخفى شيئاً ولا اضطر إلى تسويغ أو تبرير موقف، وهذا ما أذهل محبيه وحيّر شانئيه. ولم تمتد نصوص السيرة الذاتية، عند جميع من كتبوا سيرهم، من المهد إلى اللحد فيما تناولوا من أحداث، فمنهم من كتب عن جانب منها، كما فعل السياب في “كنت شيوعياً” أو عبدالرحمن منيف في” سيرة مدينة” وناتالي ساروت عن طفولتها، ونازك الملائكة عن أسرتها، وأحمد المديني في “كتاب الضفاف – نصوص الغربة – نصوص الواقع” و”كتاب الذات يليه كتاب الصفات” إذ ضما صفحات من سيرته الذاتية ليست خاضعة للترتيب المعهود. أما عبدالوهاب البياتي، فلطالما وحَّدَ بين سيرتيه الشخصية والشعرية، وحسب الشيخ جعفر كتب عن إقامته في موسكو في كتابه “رماد الدرويش” وغير هؤلاء الذين ذكرناهم، مما لا يمكن الإحاطة بهم في مقالة صحافية. إن التداخل بين الفكري والشخصي، ليس جديداً، في تاريخ الكتابة بعامة، والكتابة العربية بخاصة، وقد أشار إلى ذلك د. حامد أبوزيد في كتابه “هكذا تكلم ابن عربي” عبر قراءة “الفتوحات المكية” إذ رأى إن التداخل بين فكر ابن عربي وسيرته، هو محاولة لإخفاء “الأنا” التي ظلت أقرب إلى المحرّمات في الفكر الديني، وفي بعض مدارس علم الاجتماع، وفي غيرها، حيث يمكن أن نذكر في هذا المجال مقولة فيكتور هوغو “إننا نتذمر أحياناً من الكتّاب الذين يقولون، أنا، ونصرخ في وجوههم.. تكلموا عنّا”.
مشاركة :