يبدو أن الفنان الراحل نجيب الريحاني الذي واجه حظاً عاثراً في حياته، يواجه المصير ذاته بعد وفاته بسبعين عاماً، إذ توقف (ربما للمرة العاشرة) مشروع مسلسل تلفزيوني يتناول شخصيته ورحلته مع عالم الفن. وكان من المفروض أن يتطرق المسلسل إلى حياة الريحاني الشخصية ومعاناته مع الفقر، ويأتي مختلفاً من ناحية التناول والحبكة الدرامية، خصوصاً أن كل الأعمال التي تتناول السير الذاتية للمشاهير تظهرهم في شكل إيجابي فقط. فبعدما أعلن قبل رمضان الماضي عن إحياء مشروع المسلسل الذي كتبه محمد الغيطي على أن يخرجه عصام شعبان، وكان مقرراً البدء في تصويره الشهر الماضي ليعرض خلال شهر رمضان المقبل، توقف المشروع بسبب ظروف طاولت جهة إنتاجه لارتفاع كلفته الإنتاجية من ناحية، ومن الأخرى لعدم التوصل إلى اتفاق مع عدد من الفضائيات العربية لعرض المسلسل. ورشـــــح لتجســــــيد شخـصية الريحاني في المسلسل، الممثل الشاب نضال الشافعي، وهالة صدقي لدور والدته، وصفاء سلطان في دور بديعة مصابني، ومحمد نجاتي في دور بديع خيري. وكان دخل قبل أكثر من عشرة أعوام ثلاثة مؤلفين في صراع حول كتابة المسلسل المنتظر، وبعدما حسم المؤلف محمد الغيطي الصراع لمصلحته، وقطع شوطاً كبيراً مع المخرج محمد أبو سيف ثم مجدي أبوعميرة لتنفيذ العمل الذي وافق على بطولته عابد فهد، دخل العمل في أزمة إنتاجية، الأمر الذي أدى إلى اعتذار فهد عن بطولة المسلسل، وأُسندت شخصية الريحاني لاحقاً إلى صلاح عبدالله، على أن يخرج المسلسل عز الدين سعيد، وتجددت المشكلات ثانية، فتأجل تصوير العمل ثم دخل مرحلة «التجميد» مع تراجع جهات الإنتاج عن تنفيذ أعمال تتناول السير الذاتية للمشاهير. وذلك بعد فشل أكثر من مسلسل تناول شخصيات فنية شهيرة، ومنها «السندريلا» لمنى زكي عن حياة سعاد حسني، و «العندليب» لشادي شامل عن حياة عبدالحليم حافظ، و «أبو ضحكة جنان» لأشرف عبدالباقي عن حياة إسماعيل يس. مع العلم أن عبدالباقي كان من المرشحين بقوة لتجسيد الشخصية، وعمل عليها كثيراً وعقد جلسات عمل مع مؤلف العمل وإحدى جهات إنتاجه، ولكنه فقد حماسته بعدما تعرض مسلسله عن إسماعيل ياسين إلى انتقادات شديدة. ولا ننسى أن محمد كامل القليوبي كان أخرج فيلماً تسجيلياً وثائقياً عن الريحاني بعنوان «نجيب الريحاني في ستين ألف سلامة». ويذكر أن الريحاني عاش حياة حافلة بالعطاء والعبقرية الفنية والكوميديا الراقية التي لا يدانيها أحد، مع أن ما وصل من فنه تمثل في أفلام سينمائية قليلة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، إلا أن مكانته الفنية ستظل عالية شامخة. فهو كان ولا يزال على رأس قائمة صناع الكوميديا وملوك الضحك. ولد الريحاني في حي باب الشعرية في القاهرة في 21 كانون الثاني (يناير) 1889، لأب من أصل عراقي كان يعمل في تجارة الخيل، واستقر به المقام في القاهرة ليتزوج سيدة مصرية أنجب منها ولده نجيب، الذي بدت عليه ظاهرة الانطوائية أثناء دراسته في مدرسة الفرير الابتدائية. وحين أكمل تعليمه ظهرت عليه بعض الملامح الساخرة، ولكنه كان يسخر بخجل أيضاً. وعندما نال شهادة البكالوريا، كان والده قد تدهورت تجارته قبل أن يتوفى عام 1903، فاكتفى بهذه الشهادة ليعول والدته، والتحق بوظيفة كاتب حسابات في شركة السكر في نجع حمادي في صعيد مصر. لكن الوظيفة البسيطة لم تشبع رغبته، فاستقال منها وعاد إلى القاهرة ليجد أن الحصول على عمل أصبح في حكم المستحيل. وأصبحت لغته الفرنسية التي يجيدها غير مطلوبة، بعد قدوم لغة أجنبية ثانية إلى مصر، حيث استتبّ الأمر للإنكليز وسيطروا على البلاد. وقادته الصدفة ذات يوم إلى شارع عماد الدين الذي كان يعج آنذاك بالملاهي الليلية، وقابل صديقه محمد سعيد الذي كان يعشق التمثيل، وعرض عليه أن يكوّنا معاً فرقة مسرحية لتقديم الاسكتشات الخفيفة لجماهير الملاهي الليلية. وفي عام 1918 تعرّف إلى الكاتب بديع خيري الذي كان بمثابة نقطة فارقة في حياته، فأصبح صديق عمره وتوأمه في الفن، وقدم معه 33 مسرحية، منها «الجنيه المصري» و «الدنيا لما تضحك» و «حكم قراقوش» و «الدلوعة» و «حسن ومرقص وكوهين» و «بكرة في المشمش» و «كشكش بك في باريس» و «خللي بالك من إبليس» و «ياما كان في نفسي». وقدم خلال الفترة من 1931 وحتى وفاته في 8 حزيران (يونيو) 1949 عشرة أفلام، هي «صاحب السعادة كشكش بيه» و «حوادث كشكش بيه» و «ياقوت أفندي» و «بسلامته عايز يتجوز» و «سلامة في خير» و «سي عمر» و «أحمر شفايف» و «لعبة الست» و «أبو حلموس». كما شارك في عدد من الأوبريت، منها «قولوا له» و «العشرة الطيبة» و «الشاطر حسن» و «أيام العز». وتحدث ذات يوم مع الفنانة ليلى مراد وأخبرها بأمنيته أن يمثل معها لشعوره باقترابه من الموت، فذهبت إلى زوجها أنور وجدي، وأخبرته برغبة الريحاني في التمثيل معها، وسرعان ما تحقق له ما أراد من خلال فيلم «غزل البنات» الذي يعد من أجمل الأفلام العربية. وتوفي الريحاني قبل أن يكمل تصوير مشاهده نتيجة إصابته بمرض التيفوئيد، وهو ما أدى إلى تعديل نهاية الفيلم. وكان الريحاني تزوج من الراقصة بديعة مصابني، ولكنه سرعان ما طلقها بسبب غيرتها الشديدة عليه، وعاش حياته في هدوء أقرب إلى الوحدة. لا تزال أفلامه على رغم قلتها، بمثابة مدرسة في فن التمثيل التلقائي والعفوي والصادق ينهل منها الفنانون في شكل عام، ونجوم الكوميديا في شكل خاص، كما تفرد بقدرته على انتزاع الضحكات من عمق المأساة ومن أشد اللحظات قتامة، لذلك حمل وحده لقب «الضاحك الباكي».
مشاركة :