كان الشعر ولا يزال رهناً لتوصيفات عدة، ومحكوماً بتحولات كثيرة لامست طرائقه اللغوية وأشكاله الإيقاعية، الظاهر منها والخفيّ، وكانت له سطوته وحضوره الهائل في المجتمعات القديمة، سطوة وصلت لدرجة عالية من التوقير والتبجيل والتقديس لصورة الشاعر ونفاذية رؤيته، ولكن هل مازال القراء المعاصرون مهتمون بالشعر والشعراء، أم أن وهج القصيدة خبا وانطفأ وذاب في الأنماط التعبيرية الأخرى، ولم يعد مصطلح الشعر يحظى باستقلالية تحميه من الهجمة العمياء لوسائل تواصل متسارعة لا تتيح وقتاً للقراءة المعمقة والتحليل والتأمل والانتباه لخصوصية الإنسان المهدورة أمام التكنولوجيا الرقمية الجارفة؟ كانت هذه الهواجس الثقافية والنقدية حاضرة في الندوة التي استضافها ملتقى الأدب بمعرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته السابعة والثلاثين، وشارك بها كل من الشاعر والروائي الإماراتي عادل خزام، والشاعرة الإندونيسية أفينتي أرماند، والناقدة السعودية الدكتورة ميساء الخواجا، وقدم ضيوف الندوة الشاعرة شيخة المطيري التي أكدت أن ربط كلمة «الشعر» بكلمة لاحقة هي «المعاصر» يثير لدى المتلقي عدة أسئلة حول ماهية الكلمتين وما الذي يجمعهما ويفرّق بينهما، ويثير قلقاً أيضاً حول قيمة وتأثير هذا الشعر المعاصر ـ مجازا ـ أمام أبناء الجيل الجديد من الكتاب والمثقفين والقراء. استهل الشاعر عادل خزام مداخلته بالإشارة إلى أن اقتران الشعر بمفهوم المعاصرة، يضعنا أمام رؤى وتفاسير متشعّبة، لأن الشاعر قد يكون معاصراً لنا زمنياً، ولكنه يكتب بأسلوب شعري قديم لا يواكب تطور اللغة ولا يمس انشغالاتها الجديدة، وقال إن فن الشعر شهد مخاضات كثيرة خلال السنوات الطويلة السابقة، وهو يعاني اليوم من التهميش وقلة الاهتمام مقارنة بما تلقاه الأشكال الأدبية الأخرى مثل الرواية والقصة من استقطاب ومتابعة، وأضاف أن دور النشر لم تعد تهتم بالإصدارات الشعرية قدر اهتمامها بالروايات والدراسات المثيرة للجدل، وأوضح خزام أن عدداً من الشعراء الحقيقيين الذين يمتلكون مشروعاً تجديدياً واضحاً أصبحوا محاطين بأشباه الشعراء الذين شوهوا المشهد الشعري الحديث برمته، مؤكداً أن الأمر ذاته قد ينطبق يوماً ما على كتاب الرواية الحقيقيين والنابغين، لأن الأمر مرتبط في النهاية بالعشوائية والذائقة المؤقتة، بينما المشاريع الأدبية الجادة تسعى دائما لخلق صناعة ثقافية تسندها، وبدون وجود وعي بخطورة وأهمية المشاريع الثقافية المستدامة فإن التهميش المقصود لبعض الأنماط التعبيرية سيكون مؤثراً بشكل سلبي على المواهب الإبداعية الجديدة، وعلى الأفكار الخلاقة المتجاوزة للسائد والنمطي. بدورها قالت الدكتورة ميساء الخواجة، إن هناك إشكاليات مرتبطة بمفهوم الشعر نفسه، والدور الذي بات يمارسه اليوم، خصوصاً أن هناك من ينتصر للشعر النخبوي وهم قلة، وهناك من يميل للشعر التقليدي المتمثل في شعر التفعيلة أو في الشعر العمودي وهم كثرة، وأضافت الخاجة أن الشعر النخبوي الجديد يعاني أيضاً من ازدحام التصنيفات والتوصيفات التي جعلته موزعاً على اتجاهات متعارضة ومتنافرة، وتجعل النقاد في حيرة أمامها، فهناك من يسمي القصيدة الجديدة «نصاً»، وهناك من يصفها بقصيدة النثر، أو الشعر الحرّ. ونوهت الخاجة إلى أن القضايا التي يطرحها الشعر المعاصر متفاوتة بشدة، فهناك من يكتب قصيدته الذاتية الموصولة بتأملاته في الوجود والمكان والزمان، وهناك من يكتب عن الظواهر الخارجية والقضايا ساخنة وكيفية تعاطيه معها شعرياً، وبالتالي ـ كما قالت الخاجا ـ فإن إطلاق وصف «المعاصر» على الشكل المكتوب في زمننا الراهن لا يعني ثبات الرؤية النقدية تجاه ما هو منشور في الدواوين والصحف أو ما هو مسموع ومشاهد في الوسائط الحديثة، ولكن المسألة برمتها تعود لنوعية ما هو مكتوب وقيمته الفنية ومضمونه الجمالي. أما الشاعرة الإندونيسية أفينتي أرماند فقالت إن غياب المعلومات الإحصائية في الدول العربية ودول شرق آسيا تضع الشعراء والنقاد في حيّز مفاهيمي ملتبس عندما يتعلق الأمر بتحديد ذائقة الجيل الجديد من القراء والمهتمين بالأعمال الأدبية، وأوضحت أن الشعراء في بلدها إندونيسيا يميلون للشعر الذي يصنع عنصر المفاجأة، حيث إن هذا الأسلوب يجمع بين عمق المعنى وسحر الكلمة، وعبّرت أرماند عن رغبتها في أن يوازن الشعر المعاصر بين الشكل النخبوي والطرح الشعبي للوصول إلى أرض شعرية جديدة مليئة بالاكتشاف والمغامرة سواء على مستوى البنية أو على مستوى الإيقاع.
مشاركة :