يدعونا الحادث الإرهابي الأخير الذي وقع قرابة دير الأنبا صاموئيل بمحافظة المنيا في صعيد مصر، فنال من سبعة أرواح قبطية بريئة وجرح مثلهم، إلى مناقشة وتفنيد ذلك التأويل الشائع الذي يستند إليه سواء لمفهوم الجهاد الإسلامي أو لطبيعة العلاقة مع الآخر الديني، المسيحي في ذلك الحادث الذي أعلن تنظيم الدولة "داعش" مسئوليته عنه. إنه، مرة أخرى، ذلك الاستدعاء الساذج لمفهوم تاريخي خارج سياق ضوابطه ومحدداته، على نحو يكشف عجزاً مزمناً لدى القائلين به والممارسين له، عن إدراك طبيعة البيئة التاريخية ودورها في الحكم على مدى صلاحية الأفكار عبر الزمن، حيث تتحول الفكرة المركزية في عصر ما إلى هامشية في عصر آخر، والفكرة التأسيسية في زمن ما إلى فكرة هزلية في زمن تال، وبالذات عند مفترق لحظة التحول الذي يمكن وصفه بـ "الهيكلي" أو "البنيوي" في مسار حركة التاريخ بين مرحلتين متمايزتين فيما يتعلق بمفردات البيئة التاريخية، وفي طبيعة الإرادات الفاعلة فيها، وطرائق السيطرة عليها، إلى درجة شكلت ما يمكن تسميته بنمط "الذكاء التاريخي الخطي" الذي ساد العصر الحديث بديلا عن (الذكاء التاريخي الدائري) الذي هيمن على الحقبة الكلاسيكية. ففي المرحلة الأولى الممتدة في عصور طويلة سابقة لانبثاق الحداثة، وعلى تباين هذه العصور فيما بينها ساد ذكاء دائري حيث تمحورت مكونات البيئة التاريخية حول الفرد الحاكم، أو الأسرة/ البيت الحاكم، أو الفكرة الملهمة الحاشدة وخاصة الدين، فكان هذا الثلاثي حافزا للأمم، حال إيجابيته، إلى صياغة العالم والسيطرة عليه، كما كان دافعا، حال سلبيته، إلى انحدارها وتراجعها إلى نقطة الانطلاق الأولى، فحيث بنية المجتمعات بسيطة وتخلو من التعقيد أو التركيب كانت عملية الصعود نحو الحضارة تتحقق للجماعة الإنسانية في مدى زمني قصير، لأن الإرادة هي الأكثر محورية، سواء تولدت من طموح فرد/ ملك أو عائلة ملكية، أو بحفز فكرة قومية، أو بإلهام عقيدة دينية، حيث كان التصميم والتوحد حول هدف كفيل بإنجازه، وحيث معيار المقارنة بين الأمم والجماعات الإنسانية في عالم تقليدي رعوى أو زراعي، وفى ظل بني تاريخية متشابهة هو، بالأساس، قدرتها على التوحد وإصرارها على الإنجاز، حيث تشكلت عمليات الصعود الحضاري، والنمو الإمبراطوري بفعل آلية الحرب بالأساس، بما تضمنه من توسع في الأرض، واستيلاء على الموارد الاقتصادية الزراعية أو الرعوية، والتي بها يتم تدعيم الجيوش والإنفاق عليها، بقصد مزيد من التوسع وهكذا دواليك. وبالطبع حدث ذلك إبان كان الفتح حقاً مكفولاً، والحرب أمراً مقبولاً، والإقطاع العسكري واقعاً مشهوداً، ونماذج البطولة الإنسانية لا تتجسد سوى في السيف والفارس إما قاتلا أو مقتولا، فلم يكن التاريخ قد نضج بما يكفى لينتج وعينا الجديد عن مفهوم السيادة وعن الدولة القومية وعن الديمقراطية وحق تقرير المصير وشرعة حقوق الإنسان أو قوانين الحرب التي جعلتها أمرا محرما ما لم تكن دفاعية. فحينئذ كان العرف وحده هو الذي يحكم العلاقات بين الأمم والجماعات، وكانت مصلحة الغالب هي التي تُكيِّفها وتضع لها القواعد والأصول. فالجماعات السياسية من القبيلة إلى الولاية وحتى الإمبراطورية لم يكن ممكنا لها أن تبقى في حال ثبات من دون قتال، إذ هي دوما في حالة كر للتوسع، أو حالة فر خشية الهزيمة على النفس والعرض. وإزاء هذه الطبيعة غير البنيوية لمكونات البيئة التاريخية، تميزت آليات عملها وأنماط تأثيرها بعدم الاستمرارية، وسرعة التحول، وبالانقلابية الجذرية، فالفاعلون في حالة تبدل سريع بين قوة وضعف لأنهم يفعلون باعتبارهم أفراداً، أو أسراً، أو حتى أفكاراً ولذا فهم ينزلون إرادتهم على التاريخ بشكل مباشر يؤثر سريعاً، وينتهي أثره سريعاً أيضاً دون قدرة على صياغة أبنية تاريخية يمارسون فعلهم من داخلها، وتكون قادرة على الاحتفاظ بمقومات هذا الفعل إلى مدى طويل وعلى نحو مؤثر، وبالأخص فعل الهيمنة أو التقدم إلا بقدر محدود وآجال قصيرة محكومة بالعمر البشري. وبالطبع ثمة فروق هنا بين الأفراد، وبين الأسر الملكية، وبين الأديان الملهمة، فمنها من وما يطول تأثيره، ومنها من وما يقصر تأثيره، ومنها ما ينتهي تأثيره تماما ومنها ما يترك أثرا قابلا للإحياء، وهكذا. غير أن السمة البارزة لهذا النمط من الذكاء التاريخي الدائري والتي تبقى عامة ومجردة تكمن في أولوية الإرادة، وسرعة التغير، كنتيجة لمحورية الفرد، وهشاشة البنى التاريخية التقليدية. زفمثلاً، كانت الأديان قادرة على تعبئة أقوام وحشدها معاً، وأيضاً على تمزيق جماعة واحدة بين فرق وشيع. ومن ثم يمكننا فهم كيف اجتمعت قبائل العرب على ما كان بينها من ثارات حول الإسلام، وما هي إلا سنوات قلائل حتى تحول بدو العرب إلى فاتحين متحضرين أصحاب رسالة خرجوا لينشروها في العالمين. لقد كان ممكناً للحضارة العربية أن تنشأ وتتوسع سريعاً لأن الإسلام كعقيدة ألهم المؤمنين به رسالة كونية ودعاهم لتبليغها إلى العالم, بما تقتضيه هذه الروح الرسالية من تحضير وترقية أدوات التبليغ حتى تكون الرسالة صادقة وناجعة. وقد نشأت الحضارة في جيل واحد, ثم استغرقت بعد ذلك جيلين آخرين أو ثلاثة في نحو القرن بين السابع والثامن الميلاديين، كي تتمكن من ريادة الحضارة العالمية المتمددة إلى كافة أنحاء العالم القديم الذي يمكن حصره بما يسمى اليوم عالم المتوسط حيث الشرق الأدنى القديم, وأوروبا وأفريقيا شمال الصحراء، وغرب آسيا على أكثر الأحوال وأفضلها. غير أن هذا الانتشار لم يكن ليستمر، لأن حالة التوهج الروحي الناجمة عن الإسلام لم تكن لتستمر على توهجها في مواجهة الطبائع البشرية المتغيرة، والسنن الكونية المتحولة، ومن ثم فقد أخذ العرب في التراجع تدريجيا مع ذبول العصور الوسطى، وتقادم النمط الدائري للذكاء التاريخي، وبزوغ فجر الحداثة وذكائها التاريخي الخطى مع بداية عصر الكشوف الجغرافية متزامنا مع حرب الاسترداد بين العرب المسلمين وأوروبا المسيحية على أرض الأندلس، فعاد العرب أدراجهم إلى نقطة الانطلاق الأولى داخل الجغرافية المشرقية. أما المرحلة الثانية، أي التالية على الحداثة، فسادها ذكاء تاريخي خطى تأسس على مرحلة جديدة في العلم الذي هو بدوره أكثر أبنية التاريخ استقرارا واستمراراً لأنه يقوم سواء في تطوره أو في تأثيره على التراكم. ومن هنا فإن التراكم المعرفي لدى أمة أصبح بالضرورة – رغم تبدل الحكام وتعاقب الأيديولوجيات– تراكماً حضارياً. ففي هذه اللحظة تحول التاريخ إلى أبنية كبرى اجتماعية– سياسية– اقتصادية متمايزة ومركبة للتقدم حيناً، وللتخلف أحياناً أخرى. وفى هذا السياق، حيث تمايز أبنية الحداثة وتعقدها، أصبح دور الدين أو الفرد غير حاسم في إنجاز صعود حضاري، صار يحتاج إلى ممارسات طويلة للمعرفة من حيث هي منهج لإدراك الطبيعة واكتشاف كنهها، وكذلك للحرية من حيث هي نمط لصياغة الشخصية الإنسانية وتكوين فرديتها. ولذا فصعود أي مجتمع نحو الحضارة, ناهيك عن هيمنته عليها أو بالأحرى صعوده إلى موقع الحضارة العالمية، المتغلبة أصبح في حاجة إلى زمن أطول نسبياً يكفى لاستغراقه في عمليات البناء الهيكلي على محوري العلم، والحرية أو إعادة بناء رؤيته للعالم والإنسان. ومن ثم فقد استغرقت رحلة الصعود الغربي إلى هذا الموقع نفسه نحو ثلاثة قرون على الأقل وليس ثلاثة أجيال، منذ مطلع القرن السادس عشر وبحسب متوالية الحداثة: عصر النهضة والكشوف الجغرافية، والإصلاح الديني، والتنوير، ثم الثورة الصناعية. بل لم يكن ممكناً لأوروبا أن تدعى حاكمية حضارتها قبل مطلع القرن العشرين، وذلك لأن الفكرة المجردة أو المركزية لم تستطع أن تحقق لمعتنقيها- مباشرة- كل مقومات النهوض الحضاري، بل كانت تحتاج إلى زمن تتحول خلاله إلى بنية مجتمعية ونمط حياة. لقد أصبح الاستقرار النسبي إذن وليس التغير الانقلابي هو طبيعة الإرادات الفاعلة في التاريخ، كما أصبحت الحضارة مؤسسة عميقة لا رغبة طارئة، فصار التاريخ بنية متكاملة، فضلا عن كونه إرادة أولية متأصلة، وهو أمر كان لابد وأن يفرض منطقه على أغلب مفاهيم العصر وشهود الزمان. زلقد أصبحت الدولة القومية/ الوطنية هي وحدة الفعل الأساسية على الصعيد السياسي منذ معاهدة وستفاليا التي أنهت حقبة الحروب الدينية 1648 وفى القرن التاسع عشر تم تجريم فكرة الحرب نفسها، ما لم تكن دفاعية، بمواثيق وعهود دولية. ومع نشوء منظمات دولية مثل عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة، صار ممكنا أن يكون أمن المجتمعات وقداسة الحدود وسيادة الأوطان في عهدة المجتمع الدولي، ومن ثم انتفت الحاجة إلى الحرب، وانتفى (حق الفتح) الذي صاغ وألهم حركة الجيوش في العديد من الحضارات، في كل عصور التاريخ الكلاسيكي، وحتى القرن التاسع عشر. وبالقطع لم تتوقف الحرب، بل تكررت سواء في إطار الاستعمار والعدوان الذي مارسه الغرب الاستعماري ضد المجتمعات الشرقية، والعربية من بينها، أو ضد نفسه وبين دوله المتصارعة على المستعمرات مثلما كان الأمر في الحربين الأوروبيتين الكبيرتين "العالميتين" في النصف الأول من القرن العشرين وخصوصا بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا ثم بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة!. ولكنها في الوقت نفسه لم تعد مشروعة بل مدانة، لم تعد طبيعية بل استثنائية، بعدما ظلت، أي الحرب، هي الظاهرة الأكثر جوهرية وتلقائية وتأثيراً في التاريخ الإنساني عبر كل العصور. وفى هذا السياق أجازف بالقول بأن الجهاد كمفهوم قتالي عسكري قد تقادم في الزمن، ولم يعد له ما يبرره في ضوء واقعنا المعاصر، الذي شهد أمرين أساسيين كلاهما بمثابة انقلاب تاريخي: أولهما هو ما أسلفناه عن نضج قواعد مستقرة راسخة للعلاقات بين الدول، وتشريعات حاكمة ومقننة لمفهومي السيادة والقومية، بل والحرب ذاتها أصبح لزاما على كل العالم المعاصر أن يحترمها كأساس للسلم العالمي، وإلا استحال العالم دما ودمارا. والثاني يتعلق بمدى التقدم التقني والفضائي والإعلامي، ونمو حريات التعبير والتفكير واستقرارها كمبادئ أساسية في شتى المجتمعات المتمدينة، إلى درجة جعلت معارضيها على هامش التاريخ. ومن ثم تتيح هذه الحريات جميعا إمكانية لا محدودة للتبادل الثقافي والمعرفي، والمشاهدة عن قرب لمسارات التطور الحضاري بين المجتمعات الإنسانية، ومن ثم صارت عمليات التبادل الثقافي ميسورة، وشتى الأديان والفلسفات والمعارف متاحة للجميع، وفى قلبها الإسلام الذي صارت معرفته عند كل الشعوب ممكنة، ولم يعد بحاجة الى قتال لإيصال رسالته إلى جماعة محاصرة ، تقبع في جغرافية قصية من العالم المعمور، تسيطر عليها فئة حاكمة باغية لا مرد لسلطانها إلا بالقوة مثلما كان الأمر على عهد الرسالة. هذان التحولان الانقلابيان قوضا المكون العسكري في الجهاد من ناحية، وفتحا باب المكون الحضاري على أشده من ناحية أخرى، أمام المسلمين الذين أصبحوا مطالبين اليوم بامتلاك الكثير من المعرفة في كل المجالات، وتنمية القدرة على التواصل مع الآخرين، والأهم من ذلك القدرة على تجسيد شتى القيم الإسلامية والحضارية التي كرسها محمد "ص" في نموذج معاصر للحياة له القدرة على الجذب والإلهام.
مشاركة :