كم يكون رائعاً أن تجتمع الموسيقى والسلام!لكن أليس كلاهما وجهين لعملة واحدة هي الرقي النبيل... أو كلمتين مترادفتين لمعنى واحد هو السماحة المبدعة!هذه الحقيقة وجدت لها تطبيقاً صادقاً أول من أمس، بأنامل الساحر الأسطوري العراقي نصير شمة الذي صار اسمه - مع الوقت - علماً على الموسيقى والسلام معاً، ليرفرفا بأجنحتهما البيضاء في فضاء «مركز جابر الأحمد الثقافي»!من ذاك الذي يجرؤ على الادعاء أن الموسيقى لا تتكلم؟هذا الشخص كان سيدرك كم هو مخطئ، لو أنه اتخذ مقعده بين الحضور في حفل الفنان نصير شمّة الذي حمل عنوان «حفل السلام العالمي»!كان هذا هو عنوان الأمسية الموسيقية العالمية التي أحياها الموسيقار العالمي نصير شمّة مع نخبة منتقاةٍ من أفضل عازفي العالم، وهم عازف البيانو التونسي أمين بوحافة، عازفة الكمان الأميركية كارين بريجز، عازف الإيقاع البرازيلي جورجيه بيزيرا، عازف الغيتار الأرميني هوفا، إلى جانب عازف الإيقاع الفرنسي نيكولا مونتاوود، ليحلِّق شمة بهم ومعهم بصحبة جمهور احتشد في «قاعة الموسيقى» مرتحلين إلى عوالم بعيدة جداً من خلال ما قدّموه من مقطوعات موسيقية كان لها وقعها وأثرها في أنفس الجميع، ومن خلال تلك الأمسية الرائعة أصبح بإمكاننا اليوم القول إن مثل هذه الحفلات الموسيقية الراقية هي التي نطمح إلى استضافتها دائماً في «دار الأوبرا».وعودة إلى أجواء الحفل الموسيقي المميز، الذي نظمته أكاديمية «لوياك» للفنون الأدائية (لابا) التي تترأسها فارعة السقاف، وقاده شمّة بأنامله الساحرة وإحساسه المرهف المفعم بالشجن، والممزوج - ربما - بمآسي وطنه العربي، تلك التي برغم قساوتها لم تمنعه من أن يطلق من الكويت العربية (أرض المحبة والسلام) رسالة للحب والتسامح والسلام إلى العالم أجمع، فعزف شمة على أوتار عوده، الذي قدّمه له صانع العيدان الكويتي يعقوب جاسم، متنقلاً ما بين مقطوعات ألَّفها بنفسه وأخرى تعود إلى كبار فناني الوطن العربي، ملبياً جميع الأذواق.قدّم شمة مقطوعة موسيقية لأغنية الفنان العراقي ناظم الغزالي «طالعة من بيت أبوها» عزفها على مقام العجم بكل احترافية وإحساس، فنالت استحسان الجمهور الذي صفق بحرارة، ثم قدّم لهم وجبة موسيقية أخرى بعنوان «زمان النهاوند» وتبعها بأخرى حملت «غداً أجمل»، وعندما أيقن أن تعطش الجمهور بلغ ذروته، مطالباً بمزيد من الموسيقى منحهه مقطوعة «فوق غيمة» التي قدّمها بتوزيع جديد على أنغام البيانو بأنامل أمين بوحافة وألحانه، بعد ذلك طلبّ شمّة استراحة مدّتها عشر دقائق فقط، ومن ثمّ عاد مع أعضاء فرقته ليستأنف التحليق مجدداً من دون استئذان، فكل مقطوعة كانوا يقدمونها كانت كفيلة وحدها بأن تحرّك كل ما في داخل الإنسان من قيم وأخلاق ومشاعر وأحاسيس، إذ هي لم تكن مجرد أنغام فحسب، بل قصة وحدث ومعاناة، كانت كلمات تنطق باللحن من دون الحاجة إلى كلمات، هذه هي الحالة الرائعة التي نشرها شمّة في أمسيته الخاصة التي لم يشعر الجمهور بزمنها إلا كسهم من موسيقى مرق في سماء الحفل.شمّة احتضن عوده - الكويتي - وعاش وحيداً وسط حشد من الجمهور المستمتع بكل ثانية قضاها برفقته، فمزج ما بين صوت العود العربي وتلك الآلات الغربية التي تبعث وقعاً آخر ومشاعر أخرى، فكانت النتيجة إبداعاً لا حدود له. ففي الفقرة الثانية من الحفل أخذ الحضورَ معه إلى مشروعه الفني «غلوبال» الذي نال إعجابهم، ثم انتقل بعدها إلى معزوفة «إشراق» الرائعة، ومن ثم أتبعها بمقطوعة حملت عنوان «أولمبيا»، موضحاً في حينها أنه استلهمها من مسرح «أولمبيا» الفرنسي الذي غنّت فيه سيدة الغناء العربي كوكب الشرق الفنانة أم كلثوم، لأنها أول فنانة عربية وقفت عليه، ومع تلك «السلطنة» التي عاش بها، لم يخرج بعيداً عنها عندما قدّم معزوفة للفنان عبدالحليم حافظ بعنوان «يا هلي» أهداها إلى الجمهور الكويتي، بعدها قدّم معزوفة «عالم بلا خوف» التي كان لها وقع جميل على نفوس الحاضرين، ومن ثم جاء مسك الختام مع مقطوعة للفنان بشارة الخوري بعنوان «شكت» حيث وزعها شمّة بأسلوب جديد وظف خلاله جميع الآلات الموسيقية الحاضرة معه فوق خشبة المسرح، فمنح كل عازف وقته لتقديم ما لديه من إبداع، لتحصد سحابة من التصفيق استغرق عبورها فترة طويلة، من الجمهور الذي وقف احتراماً للعازفين وتقديراً للفن الذي قدموه.وسط الحفل الموسيقي، خاطب شمّة جمهوره الحاضر، قائلاً: «أوجِّه شكري إلى أكاديمية (لوياك) للفنون الأدائية (لابا) على التنظيم الرائع والمميز، حيث إنّ سرّ نجاحهم الحقيقي يكمن في التعاون الحقيقي بين أعضائها، فعلاً (لوياك) تجربة رائدة تستحق التقدير كنوع من التعليم البديل والإبداعي والثقافي، وشخصياً أتمنى نشر وإنشاء فرع (لوياك) داخل العراق، لأن الشباب العراقي في حاجة ماسة إلى فرص تمكنهم من التعبير عن أنفسهم، وإيجاد ملاذ بعيد عن التطرف والعنف. وشكري أيضاً ممتد إلى القائمين على (مركز جابر الأحمد الثقافي) منارة الإبداع في الكويت لاستضافتهم الحفل، ولا أنسى شكر الجمهورالكويتي على حضوره، فأنا أعلم جيداً أنه جمهور ذوّاق للفن بكل أنواعه، وكثيراً ما ألتقيه في الخارج».وأردف شمّة: «العمل الإنساني والثقافي جزء من السلام العالمي، وهو عمل صعب يشبه النحت في الحجر، فخرجت من تجربة (لوياك) بأفكار ومشاريع كثيرة أود نقلها وتبادلها مع الشعب العراقي الذي يتابع باهتمام حفل اليوم، لأن الكويت والعراق بلدان شقيقان لا يمكن أن يفصلهما أي شيء».أدهش الجمهور وأبكى لجنة التحكيم في «Arabs Got Talent»غازي لـ «الراي»: عزفت بلا خوف... فحققت «الباز» الذهبيالمفاجأة الإضافية للحفل الموسيقي، تحققت عندما صعد عازف آلة الكلارنيت الكويتي الشاب عبداللطيف غازي خشبة المسرح، ملبياً دعوة نصير شمّة واصفاً إياه بالفنان المبدع وصاحب الإحساس الرائع والمرهف، فمنحه فرصة مشاركته عزف مقطوعة موسيقية حملت عنوان «رحلة أرواح»، فما كان من غازي إلا أن عزفها من خلال روحه وإحساسه الدافئ، فأدمع عيون الحاضرين الذين تأثروا بجمال ما سمعوه من بكاء نغم «الكلارنيت».الجميل في هذا الموقف، أنه خلال فترة عزف غازي، كانت إحدى حلقات من برنامج المسابقات «Arabs Got Talent» بموسمه الحالي تُعرض على شاشة التلفاز، فحصل فيها غازي على «الباز» الذهبي، بعدما كان قد عزف مع صديقه البحريني عازف «الغيتار» محمد جباري مقطوعة من أغنية «على بالي» للفنانة المصرية شيرين عبدالوهاب، فأبدع في عزفها أمام الآلاف من الحضور والملايين من المشاهدين مبكياً أعضاء لجنة التحكيم التي أكد أعضاؤها أنهم لم يمنحوه هذا «الباز» تعاطفاً مع كونه كفيف البصر، بل لأنه بالفعل استحقه عن جدارة.وفي هذا السياق، تحدث غازي لـ «الراي» عن هذا الإنجاز قائلاً: «أحمد الله على ما حققتُه من إنجاز، خصوصاً أنني كنت قد تعرضت قبل فترة لإصابة بسبب ممارستي الرياضة مما جعلني أبتعد عن التمرين والعزف لمدة أربعة أشهر متواصلة»، موضحاً: «كما تعلم أي عازف يبتعد عن الإمساك بآلته طوال هذه المدة سيفقد الكثير من الإحساس و(التكنيك)، لكن بفضل من الله عندما تلقيت اتصالاً من إدارة البرنامج وقمنا بتسجيل الحلقة، عزفت مع صديقي محمد جباري من دون خوف أبداً، فكنا متمكنين من أنفسنا لأنها ليست أول حفلة نشارك فيها، بل سبق أن عزفنا مع كبار الفنانين والموسيقيين، لذلك ثقتنا بأنفسنا وتقييمنا لأنفسنا وتوظيف إمكانياتنا بالشكل الصحيح (سوّا شغل جبار)، وكانت النتيجة النهائية حصولنا على (الباز) الذهبي».وتابع غازي: «المسألة ليست غروراً مطلقاً، بل ثقة بالنفس ومعرفة الإمكانيات التي أمتلكها. وللعلم كل شخص لديه (تكنيك)، لكن كيف توظّفه بالشكل الصحيح، هنا يكمن سر الإبداع، وهو من أهم الأسباب التي أوصلتني إلى هذه المرحلة».وحول مشاركته العزف مع الموسيقار نصير شمّة، قال: «مشاركة العزف مع الموسيقار العالمي صاحب الأخلاق الرائعة نصير شمّة شرف كبير لي، وإضافة إلى مسيرتي الفنية، وفرصة لا يمكن أن تعوض، وهو ما جعلني أعود من مملكة البحرين مسرعاً من دون نوم مدّة يوم كامل من أجل اللحاق بالحفل الموسيقي، فمن قاعة مطار الكويت الدولي ومن دون أن أتمكن من تبديل ملابسي إلى خشبة المسرح في (مركز جابر) جالساً بجانبه وممسكاً بآلة (الكلارنيت) مع أعضاء فرقته الاحترافية والأكثر من متواضعة»، منهياً تصريحه بقوله: «شكراً (لوياك) وشكراً للسيدة فارعة السقاف على هذه الفرصة الرائعة التي منحتموني إياها».
مشاركة :