تحدثت في مقالٍ سابق عن علاقة الرواية بالأحداث السياسية في المنطقة العربية، حتى تكاد أن تكون ذاكرة للانكسار العربي، وفيها يقول الناقد غالي شكري: «تترك الأحداث التاريخية الكبرى بصمات واضحة وظاهرة على كافة الأشكال الأدبية والفنون عامة.. إن الحروب والثورات الاجتماعية والصناعية غالباً ما تهز الضمير الإنساني وتُغيِّر كثيراً من المفاهيم والقيم والأفكار السائدة وما كان متوازياً.. ولذا فإن الظروف الجديدة لابد أن تنعكس على تقديم مضامين جديدة». من هنا كانت هزيمة الخامس من حزيران -مثلاً- «لحظة حاسمة في التاريخ المعاصر للأقطار العربية». لحظةً تركت بصمتها في كل شيء؛ فلقد جاءت بعد عدة صراعات داخلية وخارجية، كان آخرها فشل مشروع الوحدة العربية. وفي غمرة بحث الشعب العربي عمَّا يُعيد تلك الوحدة جاءت النكسة لتكون قاصمة الظهر، التي أعلنت تلاشي الحلم العربي. ومن المهم الإشارة هنا إلى الرؤية التي قدَّمها نجيب محفوظ في رواية (ثرثرة فوق النيل)، و»صوَّر فيها.. موقف المثقفين من الهياكل الحاكمة آنذاك، وكذلك عزلة هؤلاء المثقفين واغترابهم عام 1966»، كما يقول الناقد مصطفى عبدالغني. لم يقف محفوظ عند تصوير طبقة المثقفين في روايته، لكنه استطاع تقديم نبوءة لحدثٍ قريب، وكأنه يُوجِّه تحذيراً من خطرٍ داهم على الأبواب. فالعوَّامة، التي تدور فيها أحداث الرواية، حيث تلتقي الشخصيات وتدور الحوارات، سطحٌ مضطربٌ على ظهر النيل، وهو ما يشير بصورةٍ غير مباشرة إلى حالة الاضطراب التي تعيشها الأمة العربية، كما أن حالة الخدر التي تعيشها شخصيات الرواية المدمنة على المُخدِّر تُذكِّرنا بغيبوبة النخب، وغياب دورها في الإصلاح، ولعلَّها تُشير إلى غيبوبة الثقافة نفسها. ثم تأتي الجريمة في خاتمة الرواية، وكأنها تُقدِّم نبوءة لحدثٍ جلل، مثَّل لها محفوظ بجثة الفلاح المصري. يمكن القول: إن النكسة كانت أقسى الصدمات التي تركت وشومها في الذاكرة العربية، ومن الطبيعي أن تحضر الرواية لتُؤرِّخ لهذا الحدث بطريقتها الخاصة، فلقد «كانت الهزيمة من العنف، بحيث هزَّت الوجدان الروائي بعنفٍ شديد، فجاءت استجابته المتأخرة، استجابة «عاطفية» أكثر منها «عقلية»، وفي حين كان رد الفعل الجماهيري عفوياً وتلقائياً، كان على الرواية العربية أن تسقط في أحبولة الإحباط دون أن تحاول الخروج برؤيةٍ إيجابية لما حدث». ويشير المستشرق الشهير روجر آلن إلى الازدياد الملحوظ في عدد الروايات الصادرة بعد النكسة؛ «فمن الناحية الكمية الخالصة، توضح المقارنة بين السنوات الست السابقة على الهزيمة، والسنوات الست التالية لها، ازدياد الإنتاج الروائي العربي بشكل ملحوظ». حيث تجاوز المعدل الروائي بين عامي 1968 و1973 سبعاً وعشرين رواية لكل سنة تقريباً، بعد أن كان معدل الروايات العربية الصادرة من عام 1961 إلى عام 1966 خمس عشرة رواية لكل سنة. أي أن عدد الروايات تضاعف تقريباً في السنوات الست التي تلت الهزيمة إلى (162) مقابل (92) رواية في السنوات الست التي سبقت الهزيمة. *** النكسة.. كانت تجويفاً غائر الألم في الذاكرة العربية بكل تفاصيلها.. لن ننسى الشعر هنا.. ولن ننسى نزار الذي صرخ ذات وجع قائلاً: هُزمنا..وما زلنا شتات قبائل تعيش على الحقد الدفين وتثأر
مشاركة :