التأقلم في دول اللجوء دونه عوائق: اللغة الألمانية مثالاً!

  • 1/12/2015
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

حدود لغتي هي حدود عالمي» العبارة لأحد أهم فلاسفة القرن العشرين، النمسوي لودفيغ ڤيتغنشتاين. تتموضع اللغة في كتابات فيتغشتاين، المتكلّم الألمانية، في قمة هرم الفكر البشري معرّفاً الإنسان بها وراسماً أبعاده بحدودها. ووفق هذه النظرية يمكن اعتماد اللغة بوابةً للولوج الى مرتكزات وطرق التفكير لدى شعوب أخرى، بخاصة تلك التي قذفتنا الهجرة إليها طوعاً أو قسراً. وكانت ألمانيا استقطبت في العام الأخير أعداداً متزايدة من السوريين، معظمهم من الشباب الباحثين عن عمل او دراسة. ولئن بقيت ألمانيا بعيدة نسبياً عن منطقة المشرق العربي في الحقبة الكولونيالية، فقد ندر تعليم اللغة الألمانية في المدارس العربية على عكس الفرنسية والإنكليزية. ولأن ألمانيا بلد مركزي كبير في وسط أوروبا، فليس صعباً على القاطن فيها ان يلحظ اعتزاز شعبها بلغته ورفضه في احيان كثيرة التكلّم بلغة العولمة، اي الإنكليزية، لذا لا مفر للقادم اليها من إتقان اللغة مقدّمة للاندماج والتواصل مع المحيط. ولم تعد مشكلة عدم اتقان الأجانب للغة الألمانية خافية على أحد، فانفجرت أزمة قبل حوالى اسبوعين وفي شكل مضحك - مبكٍ عندما طالب الحزب المسيحي الاجتماعي في مقاطعة (بايرن) بإجبار الأجانب على التحدّث بالألمانية داخل بيوتهم، الأمر الذي دفع معظم سياسييّ البلاد الى تدارك السهوة والتنديد بالحلول الاعتباطية والخرقاء الّتي طرحها الحزب المذكور. وفي حالة سوريين قادمين إلى ألمانيا من «قلب العروبة النابض»، وآخر معاقل التصدي للّهجات العاميّة، لا مفرّ من أعراض «ممانعة لغوية» بادئ الأمر. فأين الجمل الألمانية القصيرة والمقتضبة من النثر العربي المطوَّل؟ وأين شحّ التعابير باللغة الألمانية في وصف الجمال او الغزل من عذوبة وغنى اللّغة العربية ومفرداتها؟ وهل هناك أفظع من هدر الوقت في حفظ أدوات التعريف الثلاثة الملائمة لكلّ كلمة ألمانية؟ غير أنّ تحوّلاً ما، لا يلبث ان يطرأ بعد فترة قصيرة، إذ تعتاد الأذن جرس الأحرف الألمانية، فتبدو معها الجمل أكثر انسيابيًة ولها رنّة جميلة. ويكتشف المرء رويداً رويداً أموراً أشدّ تفصيلاً، فيلحظ على سبيل المثال نوعاً من تنغيم الكلمات عند الألمان، خصوصاً عند إلقـاء التــحيّة والوداع. تضفي هذه «الموسيقى الكلاميّة» نوعاً من الدفء والمودّة بين المتحدّثين، جاعلةً الحديث كَأَنَّه لهو كلاميّ بين طفلين. فشل فني وعلى رغم الوقع الموسيقي للغة الألمانية خلال الأحاديث اليوميّة، فشلت هذه اللغة فشلاً ذريعاً في مضمار نصوص الأغاني، أقلّه على المستوى الأوروبي والعالمي. اذ يجهد الألمان أنفسهم في كتابة نصٍ ملحّن ينفذ الى المستمع، لكن عبثاً إِلاّ في حالات نادرة وبلكنةٍ إنكليزية أحياناً. وتعوّض الألمانيّة فشلها في الحقل الفنّي بنجاح ملحوظ في الخطابة والمناظرات السياسيّة، فالصياغة المباشرة والمدروسة لأفكار مكثّفة لدى السياسيين الألمان لا تزال احدى أعتى الأسلحة في الحملات الانتخابية. وإن كانت المستشارة الحاليّة ( انغيلا ميركل) كسرت قاعدة الجهوريّة الخطابية وكاريزما الصوت، فإنّها استعاضت عن ذلك بكلمات هادئة ومنتقاة بعناية كمن يرتّب حديقة زهور أمام منزله. وقد تعود هذه المباشرة والاختصار في الكلام الى التلازم مع العمل وإعلاء شأن الأخير على اي سجالات لا طائل منها، خصوصاً في الفترة التاليّة للحرب العالميّة الثانية حيث تولّت نساء ألمانيا زمام المبادرة واتجهنّ الى إعادة البناء بصمت والاقتصار على الضروري من الكلام. الى ذلك، ليس صدفة أن الألمانيّة تعتبر لغة علم وفلسفة. فتراكيبها قصيرة وجملها قابلة للشك ومفتوحة على احتمالاتٍ شتّى. وكثير من إنتاجات العلوم والفلسفة في العصر الحديث مكتوبة بالألمانية او شارك في صناعتها ألمان، بهذا المعنى يملك متقن الألمانيّة مفتاحاً من مفاتيح الحداثة التى تشكّل الترجمة أحد أهمّ مداخلها. وكمعظم اللغات يحتاج المرء لإتقان اللغة الألمانية في شكل مبدئي الى فترة تتراوح بين السنة والسنتين، الاّ انّ الأمر قد يطول لدى بعض المهاجرين العرب والسوريين، خصوصاً الذين فتحت لهم ألمانيا باب الهجرة أخيراً. فما الذي يميّز هؤلاء عن غيرهم في موضوع تعلّم اللغة الأجنبية؟ إضافة الى ما سميناه بالممانعة اللغوية تواجه الشاب السوري مصاعب في تعلّم اللغة الألمانية أهمّها نشوء كانتونات اجتماعية مغلقة للسوريين في المدن الألمانية، عزّز وجودها شعور بالهوة الساحقة في القيم والعادات بين المجتمعات الشرقية والغربية. أضف الى ذلك أنّ اهتمام الشباب شبه القسري بالشأن العام والأخبار اليومية القادمة من سورية يدفعه الى القراءة والتواصل بالعربية على حساب الألمانية. وإلى جانب ذلك يقع جزء من المسؤولية على الجانب الألماني الذي لا يبدي دائماً الانفتاح والود المطلوبين تجاه الأجانب الراغبين في الإقامة والاندماج. يسأل احد السوريين طبيباً ألمانياً عن سبب إصراره على مواصلة التكلّم بسرعة على رغم ملاحظته عدم الإلمام الكافي للشخص الجالس أمامه باللغة الألمانيّة فيجيبه الطبيب: «نحن الألمان، لا نملك الوقت الكافي للتكلّم ببطء». وبالطبع لا يصلح المثال السابق للتعميم، إلاّ أنّه يمثّل عيّنة ممّا قد يعانيه الأجانب يومياً بأشكال مختلفة في بلد كألمانيا يفرض فيه نمط الإنتاج شكلاً من العلاقات التي يصعب على الغريب هضمها بسهولة.

مشاركة :