مع زيادة ضيق الأوضاع المالية العالمية، أصبح تخفيض عجز الموازنات والديون أكثر إلحاحا في بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ويتعين اتخاذ إجراء عاجل لمواجهة الديون التي تراكمت في السنوات الأخيرة – الذي يتجاوز الآن 50 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في قرابة نصف بلدان المنطقة. وإذا لم تنتبه الحكومات لهذا النداء، فستضطر إلى إنفاق نسب متزايدة من ميزانياتها العامة على مدفوعات الفائدة والسداد الجزئي لديونها المستحقة بدلا من إنفاقها على الاستثمارات الضرورية في رأس المال المادي والبشري التي من شأنها دعم النمو. وفي نفس الوقت، وإزاء الزيادة السريعة في القوى العاملة وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب والنساء، تحتاج المنطقة إلى نمو أعلى وأكثر شمولا للجميع. ويبدو استيعاب خمسة ملايين عامل سنويا في الفترة المقبلة بمنزلة تحد جسيم أمام منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان، نظرا إلى البطالة الحالية التي تطول شابا من بين كل خمسة شباب. وغالبا ما يُتوقع أن تؤدي إجراءات تخفيض عجز الميزانية إلى كبح النمو. غير أن هناك مناهج للسياسات تستطيع البلدان استخدامها لمعالجة هذين التحديين بصورة فعالة، وحين تقوم الحكومات بتخفيض النفقات أو زيادة الضرائب، يُخشى أن يقع الضرر على أضعف شرائح المجتمع. ولضمان أن تكون سياسة المالية العامة مرشدا للاقتصاد نحو حلقة إيجابية من التحسن المتعاقب في النمو والعدالة، ينبغي تصميم إصلاحات الميزانية بدقة حتى تحقق الحماية للفقراء. ذلك أن انتشال الناس من ربقة الفقر يؤدي بالفعل إلى تعزيز إنتاجيتهم، وزيادة قدرتهم على الإنفاق، والحد من الجريمة والصراع، ومن ثم زيادة النمو الاقتصادي الممكن على المدى الطويل. وبالتالي، نجد أن هناك رابطة وثيقة بين مفهومي النمو والعدالة. وتوضح التجربة أن النمو والعدالة يتأثران بطريقة خفض الإنفاق أو زيادة الإيرادات، بينما يتفاوت الكم المطلوب لإبقاء الدين في حدود يمكن تحملها. فالبلدان التي خفضت العجز وتمكنت في نفس الوقت من الحفاظ على الاستثمار العام حققت نموا أعلى وتوزيعا أكثر عدالة للدخل. والحكومات التي أجرت إصلاحات في الدعم والأجور العامة وأعطت أولوية للإنفاق الاجتماعي "على التعليم والرعاية الصحية وشبكات الأمان الاجتماعي" حققت نموا أعلى على المدى الطويل ودرجة أكبر من العدالة في توزيع الدخل. وقد أوضحت الدراسات التي تناولت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان أن كل دولار من موارد الحكومة يتم تحويله من دعم الطاقة إلى الاستثمار المنتج يرفع النمو بمقدار 2 في المائة إضافية على المدى الطويل. وعلاوة على ذلك، فإن الحكومات التي اعتمدت مزيجا من إجراءات خفض الإنفاق وإصلاحات المالية العامة الأوسع نطاقا من أجل زيادة التحصيل الضريبي حققت مكاسب أكثر استدامة مما حققته الحكومات التي استخدمت إجراءات في جانب واحد. على مدار السنوات الثلاث الماضية، اعتمدت معظم البلدان في منطقتي "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان" و"القوقاز وآسيا الوسطى" مزيجا من الإجراءات الخافضة للإنفاق والمعززة للإيرادات، ما أدى إلى انخفاض العجز – لكن هذه الإصلاحات لم تكن دائما مواتية للنمو. فعلى سبيل المثال، تمكنت بلدان مصدرة للنفط في المنطقة – مثل البحرين وإيران – من حماية الإنفاق الرأسمالي وإصلاح الدعم إلى حد كبير. غير أن هذه البلدان لم تتمكن من زيادة التحصيل الضريبي بالقدر الكافي، ما هدد استمرارية المكاسب المحققة. وفي نفس الوقت، تمكنت بلدان مستوردة للنفط في المنطقة – مثل تونس – من تعبئة الإيرادات الضريبية، لكن هذه المكاسب زال بعض تأثيرها مع الارتفاع المقابل للدعم بسبب ارتفاع أسعار النفط وعدم استكمال إصلاحات الدعم المقررة. وإضافة إلى ذلك، ورغم الفجوات الكبيرة، تلقى الإنفاق على البنية التحتية ضربة كبيرة في بلدان المنطقة المستوردة للنفط مثل جيبوتي وموريتانيا. هناك حاجة إلى زيادة الإيرادات الضريبية في المنطقة، خاصة البلدان المصدرة للنفط، نظرا إلى تأخر المنطقة في هذا الصدد عن نظرائها من بلدان الأسواق الصاعدة. فبلدان المنطقة المصدرة للنفط تحصل إيرادات ضريبية غير نفطية تبلغ أقل من 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، أي أقل من نصف متوسط الأسواق الصاعدة الذي يبلغ قرابة 20 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وهناك مجال أمام البلدان لتخفيض الإعفاءات السخية من ضرائب الشركات، كما في الأردن، التي تعطي أفضلية لمؤسسات الأعمال الكبيرة على المشروعات الصغيرة والمتوسطة؛ وجعل النظم الضريبية أكثر تصاعدية وتوسيع القاعدة الضريبية، وبإمكان الحكومات أن تركز أيضا على تحقيق توزيع أكثر عدالة للعبء الضريبي، بما في ذلك زيادة الضرائب على الثروة – كالعقارات والتركات والكسب الرأسمالي والأرباح الموزعة والفوائد – مع القيام تدريجيا بتطبيق ضريبة على الدخل الشخصي بدلا من رسوم الخدمات والدمغة التنازلية المكلفة. وعلى جانب الإنفاق، ينبغي لصناع السياسات أن يحتسبوا في الميزانية قيمة الزيادة المرجحة في تكاليف خدمة الدين وأن يعملوا على تحسين جودة الإنفاق. وفي نفس الوقت، يتعين اتخاذ إجراءات لزيادة الاستثمارات في رأس المال المادي والبشري، أو على الأقل الحفاظ على الموجود منها. ويعني هذا ضرورة تكثيف الجهود لتخفيض فاتورة الأجور العامة في بلدان مثل الجزائر والكويت وتونس. ومع استكمال إصلاح الدعم والتحويلات اللذين يتسببان في إهدار الموارد وتوجيهها للأغنياء أكثر من الفقراء، ستتمكن الحكومات من زيادة الإنفاق الاجتماعي الذي يقتصر في المنطقة على ثلث متوسط الأسواق الصاعدة.
مشاركة :