"ميتتان لرجل واحد".. هذا عنوان الرواية الصغيرة الأخاذة، للبرازيلي العجيب جورج أمادو. الرواية بصفحاتها التي لا تبلغ التسعين، تضربك وكأنها بتعبير أمادو؛ لكمة وحشيةً في الصدر. إنها عمل يضعك وجهاً لوجه أمام العمق الرهيب والمخيف، ببساطة متناهية، أمام شجاعتك إزاء الحقيقة وماهيتها وخيارات الحياة والموت، هل حقاً اخترت ما تريده في حياتك؟! هل الحياة المنمطة التي تمليها العائلة والمجتمع والملابس الأنيقة والوظيفة والسمعة والأيام المتلاحقة، شديدة الشبه ببعضها، هي ما اخترته فعلاً؟ وإذا ما تجرأت وخرجت من هذا كله، فهل ستكون قادراً على احتمال العالم والتعايش معه؟ ليس فيما ستدفعه من الثمن في حياتك فقط، بل وفي مصيرك النهائي؛ الموت! "كينكاس هدير الماء"، الرجل الذي مات مرتين، في ميتته الأولى المحفوفة بالنمط الاجتماعي، وبينما هو ممدد في تابوته.. "إنها ضحكة كينكاس هدير الماء المعهودة، وكل تفصيل فيها يحمل إهانة صريحة متلاشية في الصمت الجنائزي الذي فرضه الموت، خيل لـ"فندا" أنها تسمع عبارة "حية قذرة"، فخافت وبرقت عيناها كما كان يحصل مع أوتاسيليا، حتى شحب وجهها ومال لونه إلى البياض. إنها شتيمته المألوفة، ولطالما قذفها في وجهيهما كلما سعيتا إلى إقناعه بالعودة إلى هدوء المنزل وعاداته القديمة واحتشامه المفقود". في الليلة نفسها وحين خلا به أصدقاؤه قام كينكاس ليذهب إلى الميتة التي يريدها هو، خرج مع رفقته والتقى بحبيبته، وركبوا قارباً إلى وسط البحر، حيث ستواجههم العاصفة، فيقف كينكاس قبل نهايتها، ويقول كلمته ويقفز إلى الماء، مختاراً الميتة التي يريدها كبحّار، لطالما رأى أن الأرض أقل وأضيق من أن تتسع لجسده وروحه الحرة. أمادو كتب في آخر صفحة: "ولكن حسب رواية شاعر جوال، وهي الرواية التي راجت في السوق دون غيرها، كانت اللحظات الأخيرة على هذا النحو؛ في خضم الاضطراب العميم، سمع كينكاس يقول: "سأدفن كما أشتهي، في الساعة التي أشتهي، يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن لميتة جديدة وميت جديد، أما أنا فلن أترك لأحد أن يحبسني في قبر أرضي رذيل". وكان من المستحيل معرفة بقية الكلمات". الرواية تعود لدار مسكيلياني التونسية لهذا العام 2015 ترجمها عبدالجليل العربي، وراجع النص وهذبه وكتب له تقدمة رائعة شوقي العنيزي. منها: "لم تعد الحقيقة في قرارة بئر وإنما غدت داخل مصنع ضخم لإنتاج ملايين الحقائق كل يوم. ولكن ما علاقة ذلك برواية كهذه لا يتخطى عدد صفحاتها التسعين صفحة؟ ها هنا تحديدا ينكشف مكر جورج أمادو، فهو يرفع في وجوهنا التصور الأول الذي يجعله مجرّد باحث عن الحقيقة، ومحض متسول لها، ويتبنى خفية الثاني بواسطة الحكي والتخييل، يُظهر شيئا ويُضمر آخر، إنه ينتصر للتصور الثاني عبر التلاعب بالأول، ينتصر للجزئيات والتفاصيل في اللحظة ذاتها التي يبدو لنا فيها حائرا أمام الحقائق الكلية".
مشاركة :