هناك روايات يمكن أن تقدم كنموذج في إتقان شخصياتها وفي تقنيتها السردية وفي لغتها وحواراتها وفي تصاعد أحداثها وفي فكرتها وفي البحث العميق والدقيق في موضوعها إلى آخره من عناصر الرواية المتعددة والمترابطة فيما بينها التي تشكل جميعا جسد الرواية في النهاية. هذه الرواية "ميتتان لرجل واحد" للروائي البرازيلي جورج أمادو يمكن أن تقدم كنموذج في إتقان حبكتها. الحبكة في الرواية عنصر يقوم على التشويق والتقديم والتأخير والإخفاء والإظهار ونحو ذلك، خيوط منفردة ومتوازية يمسك بها الروائي ويلعب بها بالطريقة التي يضمن فيها الإمساك بتلابيب القارئ والاحتفاظ به لأكبر قدر ممكن من الوقت، وهذا هو ما فعله جورج أمادو في هذه الرواية منذ الجملة الأولى في الرواية: "إلى حد هذا اليوم، والغموض يلف حكاية موت "كينكاس هدير الماء". شكوك كثيرة ما تزال تنتظر تفسيرا، تفاصيل سخيفة، وتضارب في أقوال الشهود، وثغرات متعددة في الحكاية ما تزال كلها في حاجة إلى تفسير". هكذا يجعل الروائي القارئ في حيرة منذ البداية أمام حقيقة غائبة يعد القارئ من أولها ليكون متأهبا لاكتشافها. بل منذ العنوان "ميتتان لرجل واحد"، كيف يمكن لرجل واحد أن يموت مرتين؟، منطقيًا لا يحدث هذا. ما إن تبدأ بقراءة الرواية حتى تكتشف أنها ثلاث ميتات ليس ميتتين فحسب، فالميتة الأولى معنوية "أخلاقية" التي تحول فيها البطل من "جواكيم سواريز دا كونيا " إلى "كينكاس هدير الماء"، تحول من شخصية موظف محترم ذي أسرة ومنزل وأبناء ومكانة اجتماعية إلى بوهيمي متسكع. كل المهارة تتجلى في أن الروائي توصل إلى هذه الفكرة العميقة "أن يموت رجل ما مرتين" دون أن يكشف لنا كيف حدث هذا، إنما يمضي في سرد حادثة ميتته الأولى دون أن ينسى أن يعطي إشارة أنه مات في البحر لكن حين تمضي في القراءة تكتشف أنه مات في فراش حقير في غرفة سيئة تقطن بحارة مشبوهة. يبدأ بعد ذلك بسرد تداعيات موته على أسرته وكيف اجتمعوا ليتتدبروا أمر جنازته مع شعورهم بالخزي والعار اجتماعيا من تحوله الأخير الذي طرأ على شخصيته. تدبروا الأمر وقاموا به كما يليق بعائلة محترمة وسط إلحاح من البنت، هذا الإلحاح الذي يشير إليه الروائي إشارة لماحة وذكية ومثله الكثيرة في الرواية من الإلماحات ذات المعنى العميق. ثم يكشف وسط هذه التداعي الجميل للأحداث اثر موت البطل على المجتمع الآخر الجديد الذي تحول فيه البطل من "جواكيم" إلى "كينكاس"، يظهرون أصدقاؤه في الوقت المناسب لظهورهم، فيأتون إلى الغرفة التي يقع فيها التابوت فيرون شخصا آخر لا يعرفونه إلا من خلال ابتسامته الساخرة الابتسامة ذاتها التي أنكرها المجتمع الأول في مفارقة ساحرة تتعاضد مع مفارقات أخرى لتؤلف مشهدا متناقضا ساخرا، فالمجتمع الأول المكون من ابنته وزوجها ومن أخته وأخيه والمجتمع الثاني المكون من أصدقائه الأربعة في مشهد واحد يتوسطهم التابوت الذي يحمل رجلا ذا شخصيتين كل شخصية تنتمي إلى مجتمع وينكرها الآخر. ينجو من ميتته الأولى بعد أن غادره مجتمعه الأول كما اختار هو أن يغادره سابقا، ثم يموت ميتته الثانية التي تكون باختياره هذه المرة والتي تكون في البحر حسب الإشارة التي ألقاها الروائي في أول الرواية. هكذا تكتمل الحبكة وتنتهي الرواية نهاية مفتوحة وغامضة، تعتمد أن يبقيها هكذا كما ذكر في الجملة الأولى في درس جميل لاختراع الحقيقة وتخيلها مما يحدث أمامنا في صورة صراعية بديعة حول صراع الإنسان بين مظهره وجوهره، بين حياته وموته.
مشاركة :