التاريخ والفن علاقة ملهمة للتأمل. من جهة الفن محاولة للخروج والاعتراض على الواقع الذي هو التاريخ، ومن جهة أخرى فإن الفن لا يلبث أن يتحول ذاته إلى تاريخ. بمعنى أن الفن ذاته يبدو عملية تأريخ من نوع مغاير ربما. تأريخ ليس للواقع المباشر تماما بل تأريخ للواقع كما تصورته مخيلة ما. أي أن الفن هو تأريخ للخيال البشري وقدرة الإنسان على الإبداع. لذا فالفن مرجع أساس للمعرفة كيف فكّر الإنسان وإلى أي مدى تفاعل مع ذاته ومع واقعه. الفن من جهة أخرى إعادة لتأريخ التاريخ. أو اعتراض على كون التاريخ أمر قد مرّ وانتهى ولم يعد في متناولنا تغييره. لذا فالعودة الفنية للتاريخ هي عودة مضادة للزمن. عودة لإعادة رسم خط جديد في أحداث الماضي. لذا فالفنان يمارس حرية مفارقة. حرية متجاوزة للصورة الزمنية الخطية التي يرسمها التاريخ. العودة الفنية للماضي ليست نزحا من الماضي للحاضر بل هي إزاحة الماضي للحاضر أو للمستقبل. من هنا يمكن أن فهم العلاقة القوية في الأحداث التاريخية والفن. الفن هنا لا يفهم أحداث التاريخ على أنها حكايات من الماضي ولكن على أنها صوت بشري لا يزال يتحدث. فقط يريد من يسمع له ويناجيه، لذا دائما ما كانت الأحداث التاريخية مصدرا للحكايات البشرية. الحكايات السينمائية ليست استثناء من هذا بل يمكن القول إن التاريخ كان أحد أكبر ممولي السينما بالقصص والمعاني. من الأحداث التي تم استثمارها بشكل كبير ورائع الحرب العالمية الثانية التي بالإضافة لكل ما فيها من أهوال لا يمكن للعقل البشري ولا للذاكرة الإنسانية الهرب منها، إلا أنها أيضا أقرب الأحداث التاريخية الهائلة تاريخيا، ولدينا إلى فترة قريبة عدد كبير من شهود العيان الذين عاشوا تجربة الحرب. إذن هي ذاكرة لا تزال حيّة ومتوقدة، إلا أنها ربما يرى البعض قد أخذت حقها من التغطية وبالتالي فإن الأعمال الجديدة لديها احتمال الوقوع في التكرار والعاديّة. لكن حدثا بهذه الضخامة امتد على مدى خمس سنوات ومس بشكل مباشر حياة الملايين من البشر لا يمكن أن يتم استنفاذه فنيا. الحروب رغم بشاعتها إلا أنها كما يقول الفيلسوف لافيناس تصدر عن مشاعر أولية عند البشر. مشاعر يعرفها الإنسان جيدا ولكنه ينسى أحيانا كثيرة أنها مشاعر كارثية وخطيرة على الجميع. هذا المقال تأمل في أحد الأفلام التي أنتجت أخيرا عن الحرب العالمية الثانية Inglourious Basterds. في أواخر 2009 عرض فيلمنا اليوم الذي يصوّر قصة ابتدأت سنة 1941 في فرنسا بقيادة ضابط ألماني فرنسي الأصل من أصول يهودية ومهمته تكمن في التقاط اليهود وقتلهم من خلال حاسته التي لا تخطئ. هنا نشاهد الحرب كعملية قتل الإنسان لنفسه، فقط نحتاج لرفع ستار الفروق العرقية والدينية والثقافية. هنا يستثمر هذا الضابط معرفته العميقة باليهود في توقع سلوكياتهم وحيلهم المتوقعة للاختباء والهرب. هنا يبدو الشر ذكيا جدا ويقظا وعلى مهارة عالية. هنا يكون الشر أخطر. في المقابل تنطلق فرقة من العسكر الأوباش الأميركيين من أجل قتل هتلر نفسه. الفيلم ترشح لجوائز كثيرة وفاز CHRISTOPH WALTZ بجائزة أفضل ممثل مساعد. كريستوف هو الذي قام بدور الضابط الألماني الفرنسي الأصل بينما قام براد بت بدور قائد الكتيبة الأميركية. كريستوف كان مذهلا، كان مفاجأة حقيقية في السينما العالمية. الشخصية التي أداها في غاية التعقيد والدقة. شخصية شديدة الاطلاع والذكاء، لديها طريقة خاصة في التحقيق والانقضاض على النتيجة بعد عملية متقنة من الضغط النفسي من خلال تغليف حقيقة الموت بغلاف شفاف من الدعابة والأدب الكبير والذوق العالي. من جهة أخرى لدينا في الفيلم قدرة كبيرة على خلق تاريخ جديد ونهايات مختلفة عن تلك التي حدثت على أرض الواقع. هنا تحضر شخصية الفهرر هتلر من كونها شخصية تسعى الجيوش للوصول إليها إلى شخصية في متناول فرقة صغيرة من أوباش الجيش الأميركي. هنا يتضاءل الزعيم ويصغر. مع هذا الفيلم نحصل على نهاية مختلفة. هنا يمارس الفنان دوره الجميل في خلق حقائق فنية مختلفة.. يأبى الانطلاق الفني أن ينحسر داخل ما حدث فعلا على أرض الواقع إلى عالم جديد مختلف يضع فيه كل أحلامه وأمانيه. أليست هذه هي مهمة الفن الأساسية، أوطبيعة الفن الحقيقية، بكونه محلا للخيال والانطلاق، ومقابلا للواقع وضده؟ كان الفن منذ البداية متعة الخروج عن الواقع وتعويضا للعجز البشري عن تغيير ما يجري على أرض الواقع إلى عالم من صناعته هو، عالم يصممه كما يشاء ويبثّ فيه كل ما تتوق روحه له. لدينا اليوم فيلم ينطلق من هذه الفكرة رغم ضباب الضرورة التجارية في إضافة جزء من الحركة للفيلم إلا أنه يستحق الإقبال الجماهيري والجوائز التي حصدها، وقبل هذا كله فقد زُفّ لنا هذا الفيلم النمساوي CHRISTOPH WALTZ الذي أتنبأ بأن يكون صفحة كبرى في تاريخ السينما المعاصرة.
مشاركة :