أسئلة بريئة عن مشهد غير بريء | عبدالمنعم مصطفى

  • 1/16/2015
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

قبل الهجوم المسلح على أسبوعية شارلي إبدو الفرنسية الساخرة، بلغ أقصى توزيع للمجلة، ستين ألف نسخة أسبوعيًا، طبقا لتقديرات قناة 24 الفضائية الفرنسية، وفي أول إصدار للمجلة ذاتها بعد الجريمة (أمس الأول الأربعاء)، تم طبع خمسة ملايين نسخة، بيعت منها ثلاثة ملايين نسخة في يوم واحد، طبقًا لتقديرات القناة الفرنسية ذاتها، وسط توقعات بنفاد الكمية المطبوعة قبل نهاية الأسبوع..! ماذا استفاد القتلة إذن؟! وماذا استفاد تنظيم القاعدة الذي تباهى بإعلان مسؤوليته عن قتل محررين ورسامي كاريكاتير بالمجلة الساخرة، التي لم يكن نصف الشعب الفرنسي على الأقل يعرف اسمها، فأصبحت ملء سمع العالم وبصره؟! كصحافي.. أستطيع أن أتفهم قرار الأسبوعية الفرنسية الساخرة بالصدور في موعدها المعتاد دون توقف رغم فقدانها عددًا لا بأس به من محرريها ورساميها، لكنني لا أستطيع أن أتفهم قرار المجلة بالمضي إلى مدى أبعد في نشر رسوم كاريكاتورية تسخر من نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، تحت دعوى تكريس الدفاع عن مبدأ حرية التعبير، فوسط حمى الدفاع عن هذا المبدأ ذاته، جرت مصادرة حرية التعبير لكتاب انتقدوا تجاوزات المجلة الفرنسية، بل إن فرنسا حصن الحريات وفي القلب منها حرية التعبير، قد صادرت حق فيلسوفها الأشهر في القرن العشرين روجيه جارودي، الذي أدانته محكمة فرنسية مهمتها السهر على صيانة الحريات بتهمة التشكيك في المحرقة اليهودية "الهولوكوست" التي لم ينكرها الرجل، وإن كان قد أدان مبالغة الصهاينة في تقدير عدد ضحاياها، كما أدان استخدامها سياسيًا كغطاء أخلاقي لأكبر عملية تشريد شعب في التاريخ الحديث (الشعب الفلسطيني). لماذا إذن ترى فرنسا مهد الحريات، أن المساس بالمقدس الإسلامي "حرية تعبير" أما المساس بالمحرقة اليهودية فهو اعتداء عنصري صارخ ينبغي ألا تأخذنا شفقة بمرتكبيه. أنا لا أدافع عن مرتكبي جريمة شارلي ابدو، فهم قتلة يستحقون القتل قصاصًا، ولا أدافع عن الفكر الذي قادهم إلى جريمتهم، فهو فكر قاصر وعاجز وبليد وإجرامي، وهو يلحق الضرر بالإسلام والمسلمين أكثر بملايين المرات من أي ضرر ناجم عن كاريكاتير ساخر وضعته مجلة كانت مغمورة، فجعلها بعض مدعي الإسلام -بحماقتهم- ملء السمع والإبصار بجريمة غبية، جرّت على الضحية (المسلمين) من الأضرار عشرات أضعاف الضرر الذي لحق بالجاني، لكنني أرى نذر حرب دينية يسعى إليها اليمين المتطرف على الجانبين المسيحي والإسلامي، وأرى ما يمكن أن يكون مقدمة لحرب تطهير ديني واسعة في أوروبا تستهدف طرد آخر مسلم منها. اليمين المسيحي المتطرف، كان بحاجة إلى دوافع أو مبررات أخلاقية وعملية لإنجاز مشروع التطهير، واليمين الإسلامي المتطرف قام بإنتاج وتوريد الدوافع التي يحتاجها اليمين المسيحي الأوروبي. جريمة شارلي إبدو، كانت جزءًا من تعاقد غير مكتوب بين قوى اليمين المتطرف على الجانبين، يقوم بموجبه متطرفون إسلاميون بإنتاج الذرائع، التي يتلقفها متطرفون مسيحيون لإنجاز خطط التطهير العرقي "القادم" ضد مسلمي أوروبا، ولهذا فقد بدا تصدر السيدة أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا لتظاهرة في برلين ضد دعوات طرد المسلمين من أوروبا، بعدما أدركت السياسية الألمانية المحنّكة أن ثمة شحن يمكن أن يقود أوروبا لتصفيات دموية ضد مسلميها. مشهد تظاهرة برلين ضد الشحن الطائفي، هو الوجه الآخر لمشهد تظاهرة باريس ضد الإرهاب، والتي حرص على تصدرها بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي صنفته منظمات ومحاكم -بعضها أوروبي- باعتباره إرهابيا مسؤولًا عن إزهاق أرواح الآلاف من الفلسطينيين والعرب، ففي تظاهرة باريس بدا من تقدموا المسيرة وكأنهم حلفاء تعاهدوا على الحرب جنبا إلى جنب ضد الإرهاب، لكنهم استأثروا بتعريف وحيد للإرهاب، يحاسب من ارتكبوه، ويعفي من العقاب والمحاسبة من أنتجوا ذرائعه. الفرنسيون ومعهم شركاؤهم بالاتحاد الأوربي، قالوا: إن رسالة تظاهرة باريس، هي الدفاع عن جوهر حرية التعبير التي حاولت رصاصات الإرهاب اغتيالها، لكن حرية التعبير لم تكن وحدها المستهدفة بجريمة شارلي إبدو، فالإسلام كان ومازال مستهدفًا، والجريمة التي ارتكبها متطرفون محسوبون على الإسلام، لم تكن سوى ماكينة إنتاج الذرائع في الحرب ضد الإسلام. دعونا نعترف أننا كمسلمين -ما قصّرنا كما يقول أشقاؤنا في الخليج- في إنتاج ذرائع استهداف الإسلام، وأن ما ارتكبه مسلمون بحق الإسلام، يفوق في بعض الأحيان ما ارتكبه بحقه أعتى أعدائه من غير المسلمين، لكن على الغرب المتحضر، المتمدين، المتطور، أن يعترف هو أيضًا بأن من ارتكبوا جريمة شارلي ابدو، هم في التحليل الأخير، مواطنون فرنسيون يمثل بعضهم الجيل الثاني أو الثالث من مهاجرين، عاشوا وتعلموا وجرت تنشئتهم وفق القيم الفرنسية، تمامًا مثل من ارتكبوا تفجيرات مترو لندن في العام 2005، فقد كانوا مسلمين يمثلون الجيل الثاني أو الثالث لمهاجرين معظمهم من جنوب آسيا، تربّوا وجرت تنشئتهم وفق منظومة القيم البريطانية، لكنهم تحولوا مع الوقت إلى متطرفين على استعداد لارتكاب جرائم إرهابية بحق مجتمعاتهم.. على الغرب المتمدين أن يفتش داخله عن أسباب جنوح هؤلاء، فالأسباب عنده وليست عندنا، في ثقافته، وليست في ديننا، وعلى هذا فالنطاق الجغرافي للتعاطي مع تلك الأسباب، ومعالجتها، يشمل كل أوروبا وحتى أمريكا، لأن عوامل إنتاج التطرف لا تستثني أحدًا، أيًا كانت ديانته أو ثقافته، وإلا فليقل لي أحدكم، ماذا كانت علاقة تيموثي ماكفاي المسيحي المتطرف مرتكب تفجيرات أوكلاهوما سيتي، بالإسلام؟! الأديان بذاتها لا تنتج إرهابا، ولا تُوفِّر ذرائعه، لكن البعض يفعلون ذلك باسمها غالبًا، ونكاية فيها أحيانًا، وما زلت أذكر مشهدا يؤرقني من رواية "ثلاثية غرناطة" للمبدعة الراحلة رضوى عاشور، يروي أن السلطان أبا الحسن أحد سلاطين الأندلس، قال لرسول ملكي قشتالة حين جاءه طالبًا الجزية: "قل لهما إن دار سك العملة عندنا لا تنتج هذه الأيام سوى السيوف"...! لكن القشتاليين قتلوا أبا الحسن، فيما دخل ابناه في دين النصارى وتسميا -قصرًا- بأسمائهم.!! أخشى ما أخشاه، أن تكون سحب الطائفية المقيتة المحلقة فوق أوروبا، مجرد بدايات لمشهد -انتظره متطرفون أوربيون طويلا- لـ"استكمال" ما بدأ في الأندلس، بطرد المسلمين من أوروبا، تحت ذرائع الإرهاب والتطرف. moneammostafa@gmail.com

مشاركة :