قراءة سيكيولوجية في رواية «رقصة أم الغيث» وكاتبها

  • 1/20/2015
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

< بين الحين والآخر تبزغ أعمال روائية تثير الجدل في أوساط النقاد والمتلقين. هذا الجدل، الذي يراه البعض لغطاً، أعتبره أنا نوعاً من الحراك الثقافي الجيد إذا ما تمت مناقشته على أسس معرفية تجعلنا نقترب منه بشكل حقيقي. ورواية «رقصة أم الغيث» للروائي الأنيق عبد الرحمن العكيمي، تعد نموذجاً لهذا الجدل الموجود في الرواية العربية، وأنا لا أعتبرها فقط رواية، بل هي منهج تاريخي وتحليل نفسي ينقلنا إلى زمن نستطيع من خلاله أن نتعرف على بعض طرائق الحياة والعيش في ذلك الزمن، إن رواية «رقصة أم الغيث» الصادرة عن الدار العربية للعلوم (ناشرون في بيروت) قبل أربعة أعوام، والتي تدور رحاها في 150 صفحة، تأخذ القارئ إلى عوالم مختلفة متناقضة ومتقاربة ومتلازمة في آن واحد، هذا التلازم الذي يصنع تناغماً غامضاً، نتقبله ونسير معه، بل ونتفاعل مع شخصياته نتقمص معها شخصية «أبوهاجع» ذلك الرجل الخمسيني الشجاع عندما قال عبارته الشهيرة: «إنها أرضنا وكرامتنا التي خبأها أهلنا فيها منذ مئات السنين»... تأتي هذه العبارة على لسان أحد أبطال الرواية، واسمه «غنام الحميدي» قارئ الرمل الغارق في فهم تفاصيل الصحراء وقراءة الأحداث.. وتلك العبارة، بما تحمله من جانب درامي ونفسي.. قد تكون وحدها حكاية مستقلة بما فيها من تكثيف كبير.. وقد نحتاج إلى كثير من الوقت كي نحلل هذه العبارة بشكل فلسفي ونفسي يطرح جوانب عدة تخبؤها هذه العبارة الاستبطانية.. وننصهر أيضاً مع شخصيات أخرى مثل شخصية الفارس عزام، ومعه أبطال وشخوص الرواية: (أم دحام وساجر والعنود والشيخ ظاهر والطبيب أبوغريب والمري). لقد أجاد الروائي حينما جعلنا في حال تقمص نفسي ومتفاعل مع شخصيات الرواية التي تمنحك نفسها ببساطة، وتصحبك معها لتدخل في عوالمها دونما توقعات مسبقة، محاولاً استكناه تعقيدات الحدث المتنامي، الذي حرص الكاتب على غموضه كي نظل مرتبطين بجميع أحداث الرواية وشخصياتها بخيط حريري رفيع حتى النهاية، خيط قلّ أن تجده في كثير من الروايات هذا الخيط الذي ينقلنا إلى نقطة ضوء أخرى تزيد في مساحة الكشف في «رقصة أم الغيث»، إذ نجد أن الرواية تحوي كثيراً من عناصر وجوانب التشويق الدرامي، مثل ضياع ساجر في «العجة الحمراء»، أو سقوط عزام ومرضه الذي خبأه في أعماقه ذلك الذي أفقده فحولته وحتى عشقه وزواجه من العنود، وأيضاً حال القحط والجوع التي أصابت ديار الهضب، فنجد أن الكاتب أجاد في إحكام حبكة الرواية، إذ إن الطرح الذي تناولته الرواية يحمل الدهشة الحقيقية للمتلقي.. ملامح فن الكتابة السينمائية وهنا يقدم الروائي العكيمي رائعة أخرى يقدمها من خلال عمله الروائي المثير، وهو الكتابة السينمائية، وهو بذلك يقدم نفسه في هذا الجانب بشكل خلاق، فجاءت على هيئة مقاطع تصويرية تتوزع على مشاهد ولقطات واسعة، يتبين من خلالها وصفه كل تفاصيل الحدث، وربما كانت لقطة من مكان مرتفع أو مركزة على شخص ما في طريقة جلوسه، مثل اعتدال أبي هاجع في جلسته وإشعاله غليونه، إذ يقدم تلك المقاطع بأسلوب تلقائي وبشكل غير مقحم، ما يعطى ثراء في الوصف،الذي لا يلتقط الملامح الخارجية للشخصيات فقط، بل يرصدها أيضاً مع ما حولها. فيرسم صورة كلية ثرية بتتبع الحركة، ولا يغفل الروائي أيضاً جوانب مهمة، فيصف الملابس، وطريقة اللبس... بل يصل إلى تحديد الأصوات، مثل وصفه صوت الريح: «نحيب الريح العاتية»، وينتقل إلى وصف وقراءة التضاريس وألوان الصخور والرمل أثناء العجة الحمراء التي أصابت ديار الهضب: «لون داكن يميل إلى الحمرة»، «العجة الحمراء» بل ويتعدى ذلك إلى وصف لون الرمل الأبيض فوق بيوت الشعر بعد أن هدأت العجة، وأيضاً وصف لون الغيم الأسود الذي شاهده عزام، وأيضاً في وصفه صوت الرعد عندما يقول «أحقاً هذا صوتك اللذيذ أيها الرعد الذي هجر آذاننا؟». وأيضاً يلامس جانب الحواس الخمس عندما يقول «أهذه رائحة المطر، أم رائحة ذوائبك يا أم دحام» ويقول: «ماذا تفعلين بنا يا أم الغيث وأنت تخرجين من أصابع النساء؟». «وكل قحط تجدب الأرض، وتذبل الأوراق، وتنطفئ أجفان النساء إلا أنت، وجهك يستفز كل مفردات الصحراء، يستفز النبات، يستفز الغيم، فيهطل سائغاً يفتش عن عذوبتك، ترتوي أصابعك فيسيل المطر فوق صحرائنا الغرثى.. ارقصي حيث شئت سيصلنا غيثك...». إن هذا الوصف الدقيق وهذه اللغة الخاصة في ثنايا العمل يجعلنا نعيش جيداً في عوالمه المتنوعة، حتى تشعر بأنك أحد أبناء ديار الهضب التي مرت بهم تلك الأحداث، وأنك كنت أحد رموز تلك الحقبة الزمنية. سافر بنا عبر الزمن من خلال رواية أم الغيث إلى ما قبل ثلاث أو أربعمئة عام، وهو في روايته أم الغيث يذكرني بما كتبه جاك فيسني في رواية «وجه في الصورة»، أو توفيق الحكيم في مسرحية «أهل الكهف». كما يجعلك الكاتب العكيمي في لغته السردية المتدافعة تتسمر وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً متسلسل الأحداث التي تحوي عناصر الدهشة في جميع مشاهده. كما نلحظ تحديداً ورسماً ووصفاً للمكان بشكل كبير، قد نراه مجرداً باسمه أو محدداً بما فيه أو بما يحدث فيه بوصفه مسرحاً للأحداث، إذ يلعب المكان دوراً بارزاً على مستوى إنجاح الرواية للشخصيات الموجودة فيها بما تحمله من دلالات تنقلنا إلى الفانتازيا، والشخصيات التي تضمنتها الرواية بحيواناتها والكائنات الموجودة، كقوله على سبيل المثال: «إبل ضامرة»، و«الحلال»، و«كلاب الحراسة» وبنمط الحياة الاجتماعية التي تضمنتها الرواية مثل المري وطريقة تتبعه أثر ساجر، وأيضاً طريقة العلاج التي كان يمارسها العم أبوغريب، مثل علاج عرق النساء والصرع الذي يصيب النساء في ديار الهضب ورقصة أم الغيث التي تمارسها النساء في حفلة أم الغيث، والذي تقوده أم دحام في هذه الرواية، يقول: «يبدأ الرقص وأم الغيث تنتصب كرمح باتجاه السماء، وجه أم دحام يضيء الملح بتفاصيله.. عنق طويل مرتوٍ ببياض وحمرة يدهش كل من يراه.. تبتهل تفتش عن المطر.. تردد النساء بصوت هامس تارة، وصوت صادح تارة أخرى، صوت تسكنه عذوبة ولذة لا تنتهي.. صوت أنثوي سارح مسكون برائحة الرمل الذي فقد دهشة المطر منذ خمسة أعوام.. صوت أنثوي جماعي نافر حلو المذاق.. صوت يتوضأ من رمل الصحراء الأبيض.....». ونحن هنا نقدم قراءة نفسية في الجزء المتبقي من هذه الرواية، مركزين بشكل أدق على الجانب السيكيولوجي الذي وظفه الروائي، هذه التي - كما ذكرت في الجزء الأول - يسافر بنا الروائي العكيمي عبر الزمن إلى تلك الحقبة الزمنية، لنعيش متقمصين ومنغمسين في شخصياتها، وشاعرين ومتحسسين الجوانب الاجتماعية والثقافية فيها. السرد والشخصية: عبر سرد مكثف مقتصد، وجمل وعبارات قصيرة، يدور حوار محكم بترابط منطقي لترتيب الأحداث وتواليها، يحرص الكاتب على استدعاء عناصر الرواية بشيء من الجذب والإيقاع المتنوع بين الانتقال من السرعة إلى البطء وفق التفاعل في الشخصيات وانقلاباتها النفسية، في آيديولوجيا معينة، حينما يريد أن يضيء مساحة نفسية واستخدامات الاسترجاعات الزمنية، حينما يريد ربط ماض بلحظة حالية، أو الرجوع إلى حدث ما. يحاول أن يستنطق الشخصيات بلغتها العامية الحديثة التي يتداولها الناس في تلك الحقبة الزمنية الماضية. الحب والعشق في الفصل الخامس من رواية «رقصة أم الغيث» يقدم الروائي العكيمي وصفاً تحليلياً لحال العشق التي ربطت بين العنود وعزام، هذه العلاقة العاطفية التي كانت بمثابة وصف لما تتحلى به المرأة العربية من قيم كبيرة وتضحية لأجل من تحب، لقد كان لذلك العيب الذي أصاب الفارس المغوار في صميم رجولته دور في تكوين دراما تشويقية في رواية «رقصة أم الغيث» منذ أن وقع الفارس عزام من على فرسه، ويقدمه في شكل رائع في هذا الجزء من الرواية، إذا ما عرفنا أن هذا الجانب كان أحد مقومات هذه الرواية الرئيسة. النهاية المفتوحة: لم يلجأ الكاتب في روايته إلى النهاية التقليدية التي ينتهي بها كثير من الروايات، والتي لا تعطينا سوى أفق واحد للتلقي. وفي الوقت نفسه نجد إبداعاً آخر، إنه لم يتركها مفتوحة بشكل يبتر نوعية النسيج القصصي، إذ استخدم أسلوباً منهجياً في كتابته رواية «رقصة أم الغيث»، وهو بذلك يعطينا نهاية سلسة ومريحة لهذه الرواية، ويوظف جانب التدريج النفسي لنهاية روايته ببراعة، ليجنب القارئ التعقيدات المبهمة التي تجعله يعيش جانباً متوتراً. الرؤية النفسية العامة: يبدو الارتباط بين الرؤية النفسية ورواية «رقصة أم الغيث» وثيقاً ومترابطاً بما نهجه الروائي العكيمي في كتابته الرواية، من قدرة في التعبير عن محتوى اللاوعي بشكل مقنع، وهذا ما يراه فرويد من خلال التحليل النفسي الأعمق، وبالتالي فإن الروائي العكيمي يقدم أفضل نموذج لفهم القوى النفسية وبنيتها، مثل الحب - الهوية - الرغبة -الشجاعة - الصبر - المعرفة، في بناء جزئيات الرواية، وأثرها في تشكيل الظواهر الاجتماعية والثقافية في رواية «رقصة أم الغيث». وهذا ما يؤكده التحليل النفسي، إذ يشير فرويد إلى أنه لا غنى عن فهم الجوانب الثقافية والاجتماعية لفهم جذور مشكلاتنا النفسية والاجتماعية، فضلاً على تعزيز تلك الجوانب النفسية والاجتماعية وفق محددات ومقتضيات ما تفرضه الظواهر الثقافية.

مشاركة :