تضافرت عوامل عديدة في رواية عوليس لـ»جيمس جويس»، ليس بسبب أنه حاكى رواية الأوديسة لـ «هوميروس» اليوناني، وليس لأنه استخدم تيار الوعي، ولكن لأساليبه المتعددة وتقنياته الفنية واللغوية المتعددة، فليس لرواية عوليس أسلوب واحد، بل أساليب لغوية عدة، فقد تمكن صاحبها من ناصية اللغة فخرج بأسلوب فريد، الأسلوب الجويسي المتفرد، تعلم منه جيل كبير من الكتاب في العالم الغربي كله حتى وقتنا هذا وكان له الكلمة المسموعة في الأدب والفن والمسرح والسينما. وإذا علمنا أن هواية جويس المفضلة كانت هي قراءة المعاجم وخاصة معجم سكيت في تأثيل الكلمات، إضافة إلى إجادة جويس للغات عدّة منها الفرنسية والألمانية، الإيطالية واليونانية، واللاتينية.، فلا نستغرب هذا الجمال والجودة والإبداع المتعدد التي تمثلت في هذه الرواية. في الجزء الثالث من حديثنا عن رواية عوليس نكمل الحديث عن الجماليات الفنية واللغوية لهذه الرواية. كان جويس رائد عصره، ويقول بطل القصة إنه «تعلم في جامعة الحياة». والرواية جامعة يعلمنا جويس كيف نقرؤه، فنتابع بطله ونسبح معه في تيار وعيه لصفحات، ثم فجأة نراه يسأل نفسه وهو في الطريق «أين وضعت قبعتي عندما عدت للمنزل في الصباح، من عند الجزار؟» ولا يعطينا الجواب ونعود لهذا الوقت لهذه الصفحة إلى الخلف في الزمان والمكان. زمن المغامرات يتكون الجزء الثاني من الرواية من 12 فصلاً تتشابه مع أسماء فصول ملحمة الأوديسة لهوميروس اليوناني، في الفصل العاشر المسمى (الصخور الضالة) جدد فيه جويس حيث استخدم فنونًا مختلفة «يشبه المهندس الذي يعمل بالبوصلة والمسطرة والحاسبة أو مساح أراضي يعمل»، كما وصفه الناقد فرانك بدجن Budgen. ويمثل هذا الفصل منتصف الرواية كواسطة العقد يربط بين الفصول السابقة والفصول اللاحقة، ويرى طه أن هذا الفصل «يزخر بالإشارات الزمكانية، التي توضح لنا التداخل والتراكيب زماكانيًا في الحوادث على خريطة مدينة دبلن، وقد لجأ جويس إلى فن المنتاج في هذا الفصل، وهو مجموعة الحيل السينمائية التي تظهر لنا توارد الخواطر والأفكار واستغله أحسن استغلال» (ص 389).. يقول جويس: «جلس الأب كونمي في ركن من عربة الترام وتذكرة زرقاء مدسوسة بعناية في عروة قفازه المصنوع من جلد الماعز السخي بينما انزلقت من يده الأخرى المقفزة أربعة شلنات وقطعة ذات الستة بنسات وخمس بنسات إلى كيس نقوده. وعند مروره بالكنيسة التي يغطيها نبات اللبلاب جال بخاطره أن مفتش التذاكر عادة يقوم بدورته بعد أن يكون الراكب قد ألقى بتذكرته بإهمال. بدأ وقار ركاب العربة للأب كونمي أكثر مما تقتضيه رحلة قصيرة وزهيدة الأجر كتلك. كان الأب كونمي يحب الوقار المرح. كان اليوم هادئًا. كان السيد صاحب النظارات الجالس في مواجهة الأب كونمي قد انتهى من شرح شيء وغض من بصره. اعتقد الأب كونمي أنها زوجته، وفتحت زوجة السيد صاحب النظارات فمها بالتثاؤب، ورفعت قبضة يدها الصغيرة المقفزة على فمها وهي تبتسم ابتسامة حلوة طفيفة. شعر الأب كونمي بعطرها في العربة، وأدرك أيضاً أن الرجل اللخمة الذي بجوارها على الجانب الآخر كان يجلس على طرف المقعد. وكان الأب كونمي وهو وافق عند سور مذبح الكنيسة يجد صعوبة في وضع خبز التناول في فم الرجل اللخمة العجوز، إذ كانت راسه ترتعش.» (طه محمود طه، موسوعة جيمس جويس، ص 403). وفي الفصل الحادي عشر وعنوانه «السيرانات: عرائس البحر» يحاكي جويس ملحمة الأوديسة، حيث تمكن عوليس الأوديسة ورجاله أن يمروا بسفنهم بجزيرة السيرانات دون أن تؤثر عليهم وتجذبهم أغانينهن المغوية، وذلك باتباع نصائح عوليس حيث أمرهم بأحكام وثاقة وربطة بصارية السفينة وسد آذانهم بالشمع حتى لا يسمعوا أغاني عرائس البحر. ووجه الشبه مع رواية عوليس لـ«جويس» يتمثل في وجود فتاتين تمثلان السيرانات تعملان في نادي الفندق الليلي، إضافة إلى الجو الموسيقي الذي تميز به هذا الفصل وكثرة الأغاني الموسيقية فيه.. وقد نجح جويس في إبرار الشكل الموسيقي باستعمال الكلمات ووسائل موسيقية أخرى مثل رسم بعض الشخصيات بطريقة مركبة متغيرة، كما في الموسيقى لمعالجة السيمفونية لبعض الأفكار المحددة استعمال الإيقاع ورموز الصور والأشكال والأصوات والتباين في الأنغام المختلفة، واستعمال الكلمات التي توحي بألفاظها ومعانيها وتنسيقها مثل الأركسترا لتحاكي أصوات الأوتار وآلات النفخ النحاسية، التكرار والترادف والتكاثق في الكلمات. يقول جويس: «ولمست الآنسة كيندي الفنجان بشفتها مرة أخرى، وهو في يدها، وامتصت رشفة وضحكت ضحكة، وانحنت الآنسة دوس على صينية الشاي وقد تجعدت أنفها مرة أخرى ودارت عيونها الدسمة المرحة، ومرة أخرى ضحكت كيندي وهي تحني أبراج خصل شعرها البرونزي، تنحني، فيظهر المشط الذي بلون ظهر السلحفاة فوق قفاها، وتطاير من فمها رذاذ الشاي، تكاد تختنق من الشاي والضحك تكح باختناق وهي تصرخ: - يالها من عيون لزجة، تصوري أنك تزوجت رجلاً مثله، بلحيته الدقيقة هذه! وأطلقت دوس صيحة رائعة، صيحة ممتلئة من امرأة ممتلئة، بفرح، بسرور، بسخط، وصاحت: - متزوجة من أنف لزجة. - بصوت حاد، وضحكات عميقة، وبعد البرونزية بدأت الذهبية، تشجع الواحدة بالأخرى على رن الضحكة تلو الأخرى، تجلجل بالتناوب، برونزي ذهبي وذهبي برونزي، رنين عميق، ضحكة بعد ضحكة، ثم راحتا تضحكان مرة أخرى، أعرف اللزاجة... ووضعتا راسيهما المرتعشتين وقد أصابهما الإنهاك، تلهثان على حافة الطاولة، بشعرهما المضفر المزين بمشط لامع، متوردتان تمامًا.(.آه !)، تلهثان تتصببًا عرقًا (آه!) واحتبست أنفاسهما.» (ص 453) وفي الفصل الثاني عشر المعنون (بالسكلوب) يحاول جويس أن يتتبع رحلة عوليس هوميروس مع السيكلوب بوليفيموس ويهرب منه من كهف العملاق بعد أن يتمكن من فقء عينه. ويقابل السكلوب في رواية عوليس شخص مواطن يتميز في الخشونة والشراسة وضيق الأفق، ويصفه جويس بأنه: «كان الشكل الآدمي الجالس فوق جلمود صخر عند أسفل قلعة مستديرة لبطل عريض المنكبين عظيم الزندين، قوي الأوصال، مرشق العينين، أحمر الشعر، كثير النمش، أشعث اللحية، واسع الفم، أخثم الأنف، طويل الرأس، جهير الصوت، عاري الركبتين، ضخم اليدين، كثيف شعر الساقين، متورد الوجه، مفتول الساعدين. كان عرض منكيه عدة أذرع ويغطي كراديس ركبتيه، وباقي جسده الذي يظهر للعيان، شعر كث أدبس مدبب يشبه في لونه وخشونته نبات العليق الجبلي. كانت خياشيمه المفلطحة التي يطل منها هلب له نفس اللون الأدبس واسعة المدخلين تسمح لطائر القنبر ببناء عشه في غياهب كهوفها بسهولة. أما عيناه اللتان كانت الدموع فيهما تتصاع مع الابتسامات فقد كانتا في حجم القرنبيط من الحجم الوافر. ومن تجويف فمه العميق كان ينطلق تيار قوي من الزفير الدافئ على فترات منتظمة، بينما يرعد شهيقه القوي الصاخب في رنين إيقاعي، بهزيم أصداءات قلبه المرعب مما يتمخض عنه ارتجاف الأرض وقمة البرج الشاهقة وجدران الكهف الضاربة في شموخها وشدة اهتزازها. كان يرتدي ثوبًا لا أكمام له من جلد ثور حديث السلخ يصل إلى ركبتيه كتنورة فضفاضة وقد طوق وسطه بحزام مجدول من القش والسمار ويرتدي تحته سروالاً اسكتلنديًا ضيقًا صنع من جلد الغزال وخيط بإمعان في غير استواء. والتف حول أطرافه السفلى سيور من الجلد الفاخر مصبوغة بلون الأشنة الأرجواني. وقد انتعلت قدماه حذاء غليظًا من جلد البقر المملح له رباط من بلعوم هذا الحيوان ذاته.» (ص 473). الساحرة سرسه وفي الفصل الخامس عشر المسمى (سرسه) وهو يحاكي في ملحمة الأوديسة لهوميروس قصة الساحرة سرسه بأصحاب عوليس في الأوديسة في قصرها ثم تقدم لهم المخدر أثناء العزيمة وبعصاها السحريه تحولهم إلى خنازير تضيفهم إلى ضحاياها، ويقوم عوليس بمساعدتهم بمساعدة هرمز الذي يعطيه مشروبًا يقيه من السحر لدى سرسه التي تحاول سحره فيستل سيفه وينجح في السيطرة عليها وينقذ أصحابه ويعود بهم إلى حالتهم الطبيعية ويحتفلون بنجاتهم وهزيمة سرسه. ويمثل هذا الفصل غياب العقل ويستخدم جويس أسلوب وتقنية الكابوس ليعبر عن محتوى الفصل. كما يمسرح جويس هذا الفصل ويدير حوارات عديدة كما عرضها جويس: «الشرطي الأول: والآن، اسمك وعنوانك؟ بلوم: لقد نسيت الآن، أه، تذكرت (يخلع قبعته الفاخرة ويلقي التحية)، الدكتور بلوم ليبولد، جراح الفم والأسنان، لا بد أنكم سمعتم بفون بلوم باشا، كذا مليون، يمتلك نصف النمسا، مصر، ابن عمي. الشرطي الأول: والإثبات! (تسقط بطاقة من الحزام الجلدي داخل قبعته) بلوم: (بطربوش أحمر وفي زي قاضٍ على صدره شريط حريري أخضر عريض، وعلى صدره وسام جوقة الشرف، يلتقط البطاقة بسرعة ويقدمها) عفوًا، إني عضو في نادي الجيش والبحرية، المحامين: السادة جون هنري منتون، 27 شارع باتشولارز ووك. الشرطي الأول: (يقرأ) هنري فلاور. عنوان السكن الدائم غير معروف، يراقب دون وجه حق حتى يحدق. الشرطي الثاني: :هل تستطيع تثبت وجودك في مكان آخر. نحن نحذرك» (ص 534). وفي هذا الفصل تجري محاكمة طويلة للسيد بلوم، وتظهر بالمسرح شخصيات عديدة، تقود الرواية إلى القسم الثالث والأخير من الرواية والتي يعود فيه عوليس إلى أثاكا، ويعود بلوم وستيفن إلى كوبري بوت في دبلن، وسوف نتحدث عن هذا القسم الأخير في الحلقة القادمة.
مشاركة :