يجهد مغرضون في منحى يذكر بخطاب الاستشراق الاستعلائي المتحيز لإيجاد صلة وثيقة بين الاسلام والانبعاث الراهن للحركات الاسلامية المتشددة وخطابها الأصولي الاقصائي العنيف تجاه الآخر الديني او المذهبي او الاثني، مما يثير تساؤلات وشكوكاً، ليس ازاء الاسلام فحسب، بل ازاء الاديان عموماً وموقفها من الآخر وشكل التعامل معه. عرف هذا المنحى شكله الأبرز مع مقولات ارنست رينان في القرن التاسع عشر، اذ ذهب في محاضرة ألقاها في السوربون عام 1883 الى ان الاسلام والعلم لا يتفقان. يقول رينان: «كل من كان مطلعاً على احوال زماننا يشاهد بوضوح انعدام معالم الفكر لدى الشعوب الاسلامية ويدهشه ضيق التفكير المحدود بصورة حتيمة لدى المؤمن الحقيقي». حتى ان رينان اعتبر ان العلم العربي والفلسفة الاسلامية كانا بكاملهما من عمل مفكرين غير مسلمين عانوا ثورة نفسية على دينهم. وقد تصدى جمال الدين الافغاني في تلك الآونة لافكار رينان، فأكد ان العلوم العقلية ازدهرت في الاسلام، وكانت اسلامية وعربية معاً، وان الاسلام يتفق مع المبادئ التي اكتشفها العقل العلمي. من منظور مشابه انبرى المفكر النهضوي فرنسيس المراش لأولئك الذين يربطون بين الدين والتخلف السياسي والعلمي فرأى في «غابة الحق» عام 1865 انه اذا كان البعض ينسبون بعض أواجيف الى الدين، فهذا ناجم عن الصالح الخصوصي الذي لا يفتر عن بث التصورات الباطلة في عقول الناس لكي تنهض بذلك تصديقات سخيفة تؤسس للاستبداد والحكم المطلق. والحقيقة في رأي المراش انه لولا الدين لكان النوع البشري يقع في هاوية الفساد. في هذا السياق التاريخي بالذات عمد جرجي زيدان الى تأليف كتابه «تاريخ التمدن الاسلامي» ليؤكد ان العرب هم أول من اعتنق الاسلام، وهم كذلك أكثر الأمم استعداداً للحضارة وقد ادهشوا العالم بمدينتهم، اذ ملأوا الارض علماً وأدباً ومدنية وحضارة، وفاقوا سواهم في الشعر والادب والموسيقى والطب والسياسة مع أنهم أقاموا في أول عهدهم في جزيرة أكثر بقاعها جرداء لا انهر فيها ولا جداول. يبدو واضحاً من خلال هؤلاء المتنورين وسواهم ان تحميل الاديان، والدين الاسلامي بالذات، وزر التخلف والتشدد الأصولي ما هو الا افتئات وتجنٍ. فقد عرف الاسلام زمن صعوده وازدهاره اشكالاً من الانفتاح على الآخر والمختلف، حيث احتضنت الحضارة الاسلامية اليهود والمسيحيين وعاملتهم بالحسنى، حتى ان بعض الخلفاء كانوا يجالسون الأساقفة ويناقشونهم في الدين على اساس من المودة والاحترام، ويذكر جرجي زيدان ان بعض هؤلاء كانوا يهدون الخلفاء ايقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم. أجل، لقد عرف الإسلام حقبات من التشدد إزاء الآخر، حيث عانى المسيحيون واليهود وسواهم الواناً من التنكيل والقهر. لكن هل جاء ذلك بالاستناد الى الاسلام ومبادئه ام الى غايات وأهداف سياسية او اقتصادية؟ وهل اقتصرت المعاناة على المختلف الديني فحسب ام انها طاولت المختلف الايديولوجي حتى في كنف الاسلام بالذات؟ الحقيقة ان المتابع للصراعات التاريخية في الاسلام يجد ان الحروب التي قامت في التاريخ الاسلامي، لم تكن في الحقيقة سوى حركات سياسية تلبّست لبوس الدين، فيما لم يكن هدفها سوى الهيمنة على السلطة والاقتصاد، على خلفية قبلية او اثنية او جهوية. هل يختلف في ذلك تاريخ الغرب المسيحي عن التاريخ الاسلامي؟ ألم يوظف ملوك الغرب المؤسسة الدينية من أجل اكتساب المشروعية السياسية في فرض هيمنتهم على المجتمعات المسيحية؟ وهل كان لهذا الاستخدام السياسي للدين ان يتراجع لولا ان ثورة الحداثة قد وضعت حداً لكل الأضاليل، فاصلة بين الدين ومبادئه الروحانية المتعالية والسياسة وأغراضها الدنيوية؟ إن المشكلة كل المشكلة في كيفية قراءة النص الديني وتأويله والإلمام بمقاصده التي لا تتوخى سوى خير الإنسان وصلاحه. هنا يبدأ الافتراق بين التنويريين الذين يجدون في الدين كل اسس التقدم والحداثة، وبين الأصوليين الذين يتخذون منه تبريرات وحججاً كاذبة وظالمة لارتكاباتهم الشائنة بحق المجتمع. ومن هذا المنظور نرى ان كل الرموز الكبرى في فكرنا العربي الحديث والمعاصر، باستثناء قلة قليلة، تبنوا المنحى التنويري في قراءة النص الديني، ما زجّهم في صراع عنيف مع الدين آثروا القراءة الأصولية المتشددة. والمتنورون هؤلاء ليسوا حكراً على دين او مذهب، اذ بينهم رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وطه حسين وعبدالله العلايلي، كما ان بينهم فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المراش وفرح انطون واديب اسحق وامين الريحاني وجبران خليل جبران. عليه ان الانتصار على آفة الاصولية الظلامية التي تهدد والمجتمعات العربية في الصميم لا يكون بالبحث عن صلة وهمية بين الحركات السياسية المسماة اسلامية وبين الاسلام وعلى النحو الاستشراقي المغرض، بل بالعمل على صياغة خطاب عقلاني حداثي يفصل بين الدين والسياسة، فيعطي للدين ماله من تسامٍ ويحيل الاصوليات الى ساحتها السياسية حيث هناك مبتداها ومنتهاها. * كاتب لبناني
مشاركة :